يضحك أنس كطفل صغير حين يسمع جملة "أبي فوق الشجرة " مدركا أنه عنوان لفيلم مصري شهير الذي لم يشاهده أبدا و لا علم له بفحواه و لكنه كلما سمع هذه الجملة يتخيل أباه السمين ذو الأنف المستدق و الشنب الطويل ،يعتلي قمة الشجرة .
لم يكن أباه سوى بطلا وهميا عند أصدقائه بأحاديثه السهلة الممتنعة بصيغة الجمع التي لا تعني أحدا غيره و دعاباته التافهة تفاهة نفسه و التي لا تضحك أحدا غير أمه و أسفل أصدقائه.
كان يفترض ان يكون هذا الاب كالخيط الذي يجمع عقدا من اللآلىء لكنه انفرط و تفرقت لآلؤه فلم يعد يصلح لتزيين رقبة النساء .
لم يستطع هذا الاب البطل في عيني أمه أن يخرج يوما من تحت جلبابها وقد استطاعت ببراعة و حنكة ان تقيده اليها بدلالها فلا يلتفت الى امراة غيرها حتى لو كانت أم أنس بعينها .
تولت الجدة اختيار زوجة لابنها بكل عناية و دقة و كانت أم أنس أفضل المرشحات على الاطلاق لما حباها الله من جمال و أدب و حياء و هو ما ينبغي أن يكون كي لا تلقى مقاومة منها و لا تمردا في قادم الايام.
سعد الاب باختيار امه الموفق لكن سرعان ما بدأت الصراعات تلوح في الافق و لا يقف الأب المدلل الا مع رغبات أمه المستهترة.
صبرت أم أنس على استعباد الجدة و اذلالها اياها و رضيت بالبقاء قهرا تحت قديها تخدمها بانحناءة ظهر اكراما لهذا الزوج المائع الذي لم يشاركها أحزانها يوما فبينما تنهر أمامه وتهان كان يستمتع بالقاء تلك النكت السخيفة التافهة فتضحك الجدة ضحكات مصطنعة مريبة لارباك الأم و زيادة ألمها فتنكب في بكاء مرير في زاوية من زوايا البيت .كان أنس ابن ست سنين حين جاءت عماته الثلاث الى البيت يردن ضرب أمه بعد ذهاب جدته الى الحج و قد أوصتهن عليها سوءا على أن تجد البيت خاليا حين تتم آداء مناسكها و لكن بقدرة قادر انقلب السحر على الساحر و انقضت العمات على بعضهن و خرجت أمه سالمة لم يصبها منهن اذى.
لما ملت الجدة من أم أنس و قد صار له أخ صغير اعتزمت أن تبدل لابنها لعبته القديمة و تشتري له أخرى جديدة لتتجدد حياته معها وتبدأ متعتها في تعذيب فريسة أخرى فكان أن أحالت أم أنس على التقاعد و طلقتها على لسان ابنها السفيه.
قبيل العيد افتعلت أم انس ارسال الولدين ألى أبيهما لعله يرق له قلب و أو تتحرك فيه شهامة أو تنبعث منه رجولة فيكرم ولديه بأثواب جديدة ...اتجه الولدين الصغيرين نحوه في سعادة و هو منهمك في ثرثرته مع بعض رفقائه فوقفا عنده و عرف مقصد أمهما فكان أن استجمع كل ما لديه من مخاط و لعاب و قذف بكل قذارته و أمام مرأى الجماعة في وجه أنس و جرهما الى بيت أمهما كما تجر الشياه و القى بهما اليها.
لم يستطع أنس أبدا نسيان تلك الواقعة على مر سني عمره العشرين و لا ما تلاها حين رأى كيف صارت زوجة أبيه تتجرع نار جحيم جدته كما تجرعته أمه فكان يدافع عنها ما استطاع بين الفينة و الاخرى و صارت أم انس حينها هي المتبغى و الرجاء لما صارت بعيدة المنال ،و لكن هيهات للحر أن يلذغ من الجحر مرتين .
لا يزال أنس يضحك ملأ فاه حين يسمع جملة " أبي فوق الشجرة" و ما رأى ذاك الفيلم الشهير و لا عرف فحواه لكنه فكر أن الشجرة ترمز حتما الى العائلة التي يجب أن يكون الأب على رأسها مع أن أباه لم يتعلم أبدا تسلق الشجر فكيف باعتلائها في حضرة أمه ؟