تدهشني هذه الحياة بمتقلباتها ! ربما تكون هي على حالها إنما الذي يتغير هو الإنسان نفسه.. يتبدل كل يوم كما الخلايا التي في جسمه..
اليوم عاد لي سمعي وبصري بعد جولة قمت بها في السوق.. ذاك الذي لم ادخله منذ زمن.. عدت من تلك الجولة التي دفعتني الأقدار لأقوم بها دون إرادة مني, عدت منها وقد سمعت وأبصرت بعد صمم..
في تلك الطريق وجدت كل شيء قد تغير, أصبحت أسير فيها كغريب يستكشف كل شيء من حوله.. المحلات القديمة استبدلت بأخرى حديثة.. وحتى الوجوه التي الفتها وعرفتها لم أجدها... ! هل نمت نومة أهل الكهف ؟ أم انه تم قذفي في آلة لعبور الزمن ؟
هنا كان محل العم صالح الجزار.. وهنا دكان خضار الحاج على.. كانت بجانبه حلقة العواجيز تنصب كل يوم, يلعبون الورق أو ‘ الخربقة ‘ وتتعالى أصواتهم بالوعيد وضحكات السخرية والشماتة من الخاسر وتعيس الحظ.. أمر بذلك المكان فلا اسمع إلا صداهم ولا أراهم.. ! لم أجدهم كما لم أجد جدي الذي كان ينتظرني كل يوم أمام ذلك الدكان لأحمل عنه القفة.. ! وقفت بذالك المكان هنيهة استعيد صور الماضي بما كان فيها من طيبة في النفوس.. كان الجميع عائلة واحدة , لم يكن في شريعتهم باب للتزوير والخداع.. كانت القناعة والرضا تظهر في كل الوجوه... وما أن سرت من عيني دمعة أرادت أن تغسل غبار الماضي السحيق حتى باغتني صوتها المرتعش فألتقط دمعتي والتفت.. عرفتها من النظرة الأولى غريبة مثلي, تمد يدها تطلب المعونة.. حملقت في ذالك الكيان الواقف أمامي يكتسحه السواد.. نظراتها شاردة وكأنها تقف في مكان آخر مغيبة عن ماهي فيه الآن.. لحظات من الصمت والدهشة مرت بي حتى عاد صوتها ثانيتا بالطلب... إنه يبدو من لهجتها أنها من سوريا.. ! إنها مثل ألائك الذين سمعت عنهم ووصلتني أخبارهم.. رمت بهم تلك اليد في الضياع التام.. أسرعت بإخراج كل ما عندي لأفر من أمامها وابعد عيني وأتحاشى نظراتها.. شعرت بغصة في حلقي تمنعني الكلام وتسد عني منافذ الهواء.. أردت فقط أن اذهب بأسرع ما يمكن حتى لا يسألني عقلي عنها شيء, حتى لا تطبع صورتها في ذهني وتنغص علي...
وانصرفت وتركتها خلف ظهري كما فعلت معها الأيام.. ! كان لك بيت.. فيه أحواض من الأزهار والنباتات, تسقينها كل صباح.. فما الذي أتى بك هذا الصباح في هذا المكان حيث التقيتك ؟ كانت لك عائلة وأطفال يلتفون حولك تستمدين منهم القوة والعزم ويستمدون منك الحنان والدفء.. فلماذا أراك الآن ذابلة وحيدة كسنبلة نزع منها القمح وترك السفا ! أين معينك وسندك ؟ مالك يا أبنت الاكريمين أراك ضائعة لم تعد تهتم بما ينتظرها في القادم من الأيام ! ليست قوة وثبات إنما لأنه لم يعد في ذالك الجسد والروح مكان فارغ يستقر فيه ألم جديد... !
عدت من جولتي وقد رأيتها ورايتك يا من تنتظر ساعتك أن تحين.. رايتك لا تنام إلا بمساعدة الأقراص.. وسمعت صوتك الوجل وأنت تعترف : لا استطيع التراجع.. ماذا سأفعل الآن ؟ التراجع آو الاستسلام فيه هلاكي... رايتك وروحك تتعذب وجسدك كجدع من الخشب القديم الذي نخره السوس.. ورأيت أرواحهم تطوف حولك فمن أين المفر .
