لم أكن اعرف ما الذي يشدني إلى تلك الأصوات التي تصدرها في السماء وفي عمق الليل..إعلانا بقدومها ونهاية رحلتها الشاقة.. ربما كانت تلك الصرخات التي تصدر من حناجرها هي هتافات الفرحة واللقاء, تلك الأعناق الطويلة بلغت أهدافها كسهام تشق الفضاء.. ! تلك الأسراب المنظمة لا تضيع أبدا فلماذا ضعت أنا بعقلي !!
كان زواجي به زواجا تقليديا حددته المصالح المشتركة.. لم أكن اعرفه أو اعرف عنه شيء, لكن عائلتي وعائلته اتفقا وأبرمت العقود..
كانت فرحتي اكبر بذلك الزواج الذي سيأخذني إلى مدينة الأحلام.. حيث المحلات الكبرى والثياب الفاخرة, سيكون لي بيت وأثاث جميل.. سيكون في جيبي مفاتيح سيارة وكرت الفيزا.. أما عائلتي فقد اطمأنوا عليّ وضمنوا لي الحياة السعيدة..
واجل كنت سعيدة للغاية, فقد كنت طوال عامين الأميرة والسيدة المبجلة.. انعم برغد العيش والرفاهية.. قريناتي في بلدي لا يحلمن بما أنا فيه, ذقت أشهى المأكولات وأطيب الحلويات.. سهرت في أشهر الفنادق ولبست من أحسن الماركات..
هكذا كان عقلي الصغير يبحث لي على أنواع السعادة, تلك التي اخذ معناها وبريقها يقل يوما بعد يوم حتى أخذت في التلاشي.. ظهرت لي أمور وحقائق أخرى.. وأصبح ما أعيشه أمر عادي.. لم اعد أجد سعادتي في اقتناء الحاجيات.. لم يعد للفساتين الجميلة مكان في قلبي بعد أن ملئت خزانتي بهم.. هكذا أصبحت شبح في بيت واسع ولا شيء سوى أنا و وحدتي.. حتى زوجي الوسيم صاحب المنصب الكبير.. أراه الآن إنسانا غريب عني, مشغول طول الوقت بأعماله وصفقاته.. يغيب أياما وحين يعود لا يبحث إلا عن وسادته لينام.. أصبحت أرى الآن الحقيقة , حقيقة أني لم أكن سوى بعض كماليات الحياة عنده.. كان لابد له من أن يتزوج ووجد من يشتريها بسهولة...
جذي الحبيب, عدت اليوم كتلك الطيور المهاجرة.. عدت من غير صيحات الفرح وأحضان اللقاء.. ! عدت وقد رحلت أيامي الجميلة.. إني ألان أمام بيتك, أطوف بجدرانه المهدمة وأحاول أن اشتم رائحة الماضي من وسط الأنقاض.. تعرف ؟ الباب مازال على حاله.. في تلك الزاوية كان سريرك.. وهنا افترش الجلد لاستمع إلى حكاياتك كل ليلة.. وفي ذلك المكان كانت جدتي تتربع لتتصيد هفواتك وتحاججك بتواريخ قديمة نسيتها...
جدي الحبيب, عدت لأجد كل شيء قد تغير ! أصبحت غريب حتى عند اقرب الأقرباء.. أرى في أعينهم الاحترام والتبجيل.. يعاملونني كغريبة باحتراس شديد.. ربما قد تغير في مظهري أشياء كثيرة لكن ما تغير في قلبي هو أكثر.. مجبرة أنا الآن على تمثيل السعادة والثبات.. مجبرة على تمثيل دور القوية التي على حق دائما..
أنا التي تنازلت عن عمرها في مقابل بعض الملذات.. هل كان طيشا ؟ هل كان عماء ؟ لقد ذهب الربيع من عندي ولم أعشه لأقتطف إزهاره.. السعادة كانت كلمة اكذب بها على نفسي كلما هاج بها الحنين, كلما اقترب منها الندم, كلما داهمها الضيق... واه الآن هذه هي حياتي ماذا افعل ؟ هل سأرضي بهذه السعادة الكاذبة التي فرضت عليّ وكتبتها لنفسي ؟ تعرف يا جدي ؟ ربما المشكلة في أني لا املك عنقا طويل يتطلع إلى ما يريد.. ربما احتاج إلى آن أراقب وانتظر الأسراب أن تمرّ من جديد..
