خيمت كآبة سوداء على غرفة فاخرة احتشد في داخلها وجهاء من المدينة أحاطوا بجسد نحيل ملقى على سرير وثير كان صاحبه في آخر معاركه مع الحياة.. ووسط العيون المترقبة التي أصبح أصحابها يرون في الموت أملا أخيرا، توغلت به الغيبوبة في عالمه القديم.. أحاط به ضباب كثيف انبعث منه قطار حياته القادم من الصبا يجري على شريط من الذكريات المتآكلة.. وضع يده على جبينه ودقق النظر فرأى نهايته التي أصبحت قريبة أكثر مما تصور..
عاش بواكير حياته وأجمل أيامها معدما لا يملك من حطام الدنيا غير جسده المنهك.. صارع البرد والجوع والهوان ونجح في كسر الحاجز الذي يحول بينه وبين مباهج الحياة فجاءته الثروة تجري مذعورة لتحتمي به من جشع الآخرين فعاش كما اعتقد أنه ينبغي له أن يعيش إلى أن جاء اليوم الذي تقوس فيه ظهره وتثاقلت به خطواته وقاده تفكيره إلى القبر عنوة فأدرك أنه قد انحرف عن الطريق الصحيح..
اقترب القطار من محطته النهائية، وأصبح توقفه الذي لا حراك بعده قدرا أخيرا.. زاغ بصره في أرجاء الغرفة بحثا عن حياة.. تحركت شفتاه ببطء ووهن فامتدت الأعناق بلهفة لسماع كلماته المعتبرة لكنها اصطدمت بأنفاسه الباردة المتقطعة..
كان قطار حياته الذي مر بألف محطة ومحطة، وحقق ألف رغبة ورغبة، وعاش ألف ليلة وليلة، يخفف من سرعته الرهيبة استعدادا للتوقف الأخير..
وبخفوت انبعثت من صدره كلمة بذل ما تبقي فيه من جهد من أجل نطقها.. ولم يدر المحيطون به أنها كانت استجداء أخيرا للرحمة.. وسكن الجسد الذي طالما تحرك سكونه الأخير..