بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد :فإن الدعوة إلى الله من أشرف العبادات وأعلاها مقاما حتى جعلها الله أحسن القول فقال سبحانه ( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين )
والدعوة إلى الله تعالى هي سبيل محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه على الحقيقة قال تعالى ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) .
والدعوة الى الله عبادة من اجل العبادات التي يشترط فيها الاخلاص والمتابعة حتى تكون عبادة صحيحة مقبولة فلا تقبل دعوة بدون اخلاص او متابعة ومن هنا كان لابد لمن تصدر للدعوة ان يعتني بهذين الشرطين اشد الاعتناء في وقت عظمت فيه الغربة وتساهل كثير من الدعاة بهذه الشروط حتى تصدى للدعوة من ليس اهلا لها من الجهال او اهل الاهواء فضلوا واضلوا
عباد الله : كيف يليق بمن كان غارقاً في الجهالة طوال سني حياته أن يكون الداعية والواعظ والمرشد والشيخ وربما المفتي بعد سويعات من استقامته ؟ أو بعد يوم أو يومين ..يجوب الأحياء والمدن والمساجد بل يجوب الدول للدعوة إلى الله ..
إن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح وإن فاقد الشيء لا يعطيه.. وإن هؤلاء يصدق عليهم الوصف النبوي في الرؤوس الجهال الذين يضلون ويضلون والعياذ بالله .حتى أصبحنا نرى من يتصدى لتوجيه الناس من كان غارقا في المخدرات أو التفحيط والمعاكسات أو السحر والشعوذة بحجة أنه تاب ورجع !! سبحان الله وهل كل من رجع تاب يكون أهلا للتصدي لتعليم الناس فان كان صادقا في توبته فليستتر بستر الله ويسأله المغفرة والثبات، أما أن يخرج لنا كل يوم من هؤلاء من يسرد علينا قصصه ومغامراته وسوابقه وجرائمه وهو يضحك وكأنها أعمال بطولية يفتخر بذكرها ، وهذا يدخل تحت قول الرسول صلى الله عليه وسلم (كل امتي معافى الا المجاهرون)والمجاهر هو الذي يفعل المعصية في الليل ويبيت يستره الله ثم يصبح يقول للناس فعلت البارحة كذا وكذا يكشف ستر الله عليه، فكيف عباد الله بمن يسرد تاريخه المظلم وارشيفه الفاضح ، بل والله ان اللسان يستحي ويعجز عن ذكرها من على هذا المنبر ، حتى بدأنا نرى الساحر التائب والمروج التائب والمفحط التائب والفنان التائب هم الذين يتولون الوعظ والتذكير والتوجيه ، هل هذا يعني أن العلماء لا يمكن ان يتصدوا لتعليم الناس وتحذيرهم من المعاصي والمنكرات كما استطاع هؤلاء ؟ أم أن الأمة كانت في غفلة عن هذه المنكرات طيلة السنوات الماضية حتى قيض الله لنا هذه النوعيات لتنقذنا من هذه الأخطار؟ عباد الله قد يقول قائل ان لهؤلاء تأثيرا في أمثالهم واقناعهم وهدايتهم أكثر من غيرهم ، فيقال : ان الدعوة الى الله عبادة والعبادة لايُحدث فيها شيء الا بما جاء به الشرع ، وهل كان الصحابة والسلف يفعلون هذا مع من تاب ذنوبه ؟ بل ان حديث التوبة لايؤمن جانبه ان يوقع الناس في مخالفات او ضلالات ، كما جاء في حديث ابي واقد الليثي عندما قال ((خرجنا مع رسول الله الى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر فمررنا بشجرة ذات انواط فقلنا يارسول الله اجعل لنا ذات انواط )) قال الامام محمد بن عبد الوهاب في المسائل : المسألة الثانية والعشرون : أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة لقوله : " ونحن حدثاء عهد بكفر "ا.هـ
ومادام ان هذا لم يؤثر عن السلف الصالح فلا نحدث شيئا بعدهم فان الخير كل الخير في اتباع من سلف.... والشر كل الشر في ابتداع من خلف.
فضلا أن هناك نوعيات تصدرت للدعوة الى الله وليست تخصصاتهم شرعية واقحموا انفسهم في الوعظ والتذكير بحجة أن الدين ليس حكرا على أحد ، فسبحان الله كيف يسمح هؤلاء لانفسهم في التحدث في الدين ولايسمحوا لغيرهم ان يتحدث في تخصصاتهم كالطب والهندسة والصيدلة خوفا وحماية لصحة الابدان فيقال لهم اليست صحة وسلامة الاديان اولى من سلامة الابدان ؟؟
واذا كنا نشتكي في بعض الاحيان من بعض من تخصصاتهم شرعية لجهله بأمور كثيرة فكيف بمن ليس له في الشريعة لا علم ولا نصيب
ولما تصدر للوعظ بعض الجهال في القرون الأولى اشتد عليهم نكير السلف من العلماء والحكام كما فعل علي ومعاوية وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم حماية للدين ونصحاً للمسلمين
قال رسول الله (ان بني اسرائيل لما هلكوا قصوا) قال الألباني : إن سبب هلاكهم اهتمام وعاظهم بالقصص والحكايات دون الفقه والعلم النافع الذي يعرف الناس بدينهم فيحملهم ذلك على العمل الصالح لما فعلوا ذلك هلكوا ، وقال ابن عمر (لم تكن القصص على عهد رسول الله ولا ابي بكر ولاعمر وانما كانت زمن الفتنة) وقال ابن سيرين (القصص أمر حدثته الخوارج)وكان عمر بن عبد العزيز يسجن القصاص ، وقال ميمون بن مهران (ما أمات العلم الا القصاص تجلس الى احدهم سنة فلا تعلق منه بشيء وتجلس الى العالم ساعة فتخرج منه بعلم غزير) وقال الامام احمد (أكذب الناس السؤال والقصاص)
وروى الطبراني بسند جيد عن عمرو بن دينار أن تميماً الدّاريّ استأذن عمر في القصص فأبى أن يأذن له (مرتين)، وفي الثالثة قال له "إن شئت" وأشار أنه الذبح.
وروى عبد الرزاق عن معمر قال بلغني أن عليا مر بقاص فقال أتعرف الناسخ من المنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت قال ومر بآخر قال ما كنيتك قال أبو يحيى قال بل أنت أبو اعرفوني
وأخرج أحمد في (الزهد) عن أبي المليح قال ذكر ميمون القُصّاص فقال: "لا يخطئ القاصّ ثلاثاً: إما أن يسمن قوله بما يهزل دينه، وإما أن يُعجب بنفسه، وإما أن يأمر بما لا يفعل".
وقال ابن الحاج في (المدخل): "مجلس العلم الذي يُذكر فيه الحلال والحرام واتباع السلف رضي الله عنهم، لا مجالس القُصّاص فإن ذلك بدعة، وقد سئل مالك رحمه الله تعالى عن الجلوس إلى القُصّاص ، فقال: "ما أرى أن يجلس إليهم وإن القَصص لبدعة".
وروى عن يحيى بن يحيى (عالم الأندلس في عصره): سمعت مالكاً يكره القَصص فقيل له: يا أبا عبد الله فإن تكره مثل هذا فعلام كان يجتمع من مضى؟ قال: "على الفقه".
وفي تاريخ ابن جرير في حوادث سنة 279: "نودي في بغداد: ألاّ يقعد على الطريق ولا في المسجد الجامع ينهى الناس عن الاجتماع إلى قاص ويُمنع القصاص من القعود" اهـ.
وختم الحافظ العراقي كتابه: (الباعث على الخلاص من حوادث القصاص) بقوله: "فيجب على ولاة أمور المسلمين منع هؤلاء من الكلام مع الناس".
وذكر الحافظ ابن الجوزي في أول (كتاب القصاص والمذكرين) من أسباب كراهية السلف القصص:
1) أنهم إذا رأوا ما لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكروه.
2) أن القصص لأخبار المتقدمين يندر صحته.
3) أنه يشغل عما هو أهم من تدير القرآن ورواية الحديث والتفقه في الدين.
4) أن في القرآن والسنة من العظة ما يغني عن غيره ممّا لا يُتيقن صحته.
5) أن عموم القصاص لا يتحرون الصواب.
6) اغترار العوام [وأشباههم من المثقفين والمفكرين والحركيين] بما يسمعون من القصاص فلا ينكرون ما يقولون، ويخرجون من عندهم فيقولون: قال العالم، فالعالم عند العوام من صعد المنبر.
7) أن القصاص يأخذون الحديث شبراً [بلا تمحيص] فيجعلونه ذراعاً.
وبلغ معاوية أن واعظاً يعظ الناس بمكة لم يؤذن له فاحضره وتهدده
وقال ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا . أما إني لا أعني حلق القصاص ولكني أعني حلق الفقه .
وكان ابن عمر إذا قام أحد هؤلاء الجهال من القصاص والوعاظ يعظ الناس يخرج من المسجد ويقول : ما أخرجني إلا القصاص ولولاهم ما خرجت
وقد ألف علماء الاسلام الرسائل والمصنفات في التحذير من القصص والقصاصين فقد الف شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله رسالة في أحاديث القصاص ، وكذلك الحافظ السيوطي الف : تحذير الخواص من أكاذيب القصاص ، وكذلك ابن الجوزي في كتابه القصاص والمذكرين ، وكذا الحافظ العراقي الباعث على الخلاص من حوادث القصاص وغيرهم ..
وأما اليوم فقد أصبحت القصص سلما للشهرة وطريقا للعالمية وسبيلا لتكثير الأتباع والجماهير والسواد .
وأصبحت القنوات تتسابق على استضافة القصاصين والتسجيلات على المتاجرة بأشرطتهم والناس تتهافت عليهم بالقلوب قبل الآذان ...واغترت أحيانا بحرف الدال الذي يسبق أسماء بعضهم... فما أعظم الفرق بيننا وبين سلفنا الصالح في التعامل مع القصاصين ز
عباد الله نعم هناك في القران والسنة من القصص ما يكفي ويشفي قال تعالى (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون)(ان هذا لهو القصص الحق)(لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب)(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا اليك)
ولسنا بحاجة الى افتعال القصص الخيالية المكذوبة والمصنوعة من نسج الخيال ولسنا بحاجة الى قصص تأتينا شبرا ثم ماتلبث أن تصبح مترا بل أمتارا وأكيالاً
وروى الطبراني عن عمر بن زرارة قال: وقف علىّ عبد الله بن مسعود وأنا أقص فقال: "يا عمرو، لقد ابتدعت بدعة ضلالة، أو أنك أهدى من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه"، قال عمرو: فلقد رأيتهم تفرقوا عني حتى رأيت مكاني ما فيه أحد.
وأخرج عبد بن حميد في تفسيره عن قيس بن سعد قال: جاء ابن عباس حتى قام على عبيد بن عمير وهو يقصّ، فقال له: "{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيم} (مريم:41) {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} (مريم:54) {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ} (مريم:56) ذكّر بأيام الله، واثن على من أثنى الله عليه".
ومن الأخطاء البارزة التي يقع فيها كثير من هؤلاء أنهم يتكلمون في المساجد بلا إذن من الجهات الرسمية المسؤولة عن شأن الدعوة وإذا لم يأذن الإمام لهذا الواعظ غضب وغضب معه كثير من الناس يظنون أن القصد هو الصد عن سبيل الله والتضييق على الدعوة إلى الله . مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور أو مختال ) وفي لفظ أو مرائي.. فمن لم يكن أميراً ولا مأذوناً له من قبل ولي الأمر فقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالمرائي والمختال والعياذ بالله .
وما أحسن ما فعل كعب الأحبار فقد كان يعظ الناس في مسجد حمص فلما بلغه هذا الحديث توقف سنة كاملة حتى جاءه الإذن من معاوية رضي الله عنه .
وهكذا ينبغي أن يفعل من طُلب منه أن لا يتكلم إلا بإذن فالمقصد حماية الدين والعقيدة واجتماع الكلمة والبعد عن أسباب الفتنة والتفرق والاختلاف .