بسم الله الرحمن الرحيم
إن من سنن الله الكونية في خلقه التفريق بينهم في الأرزاق والمعايش كما قال تعالى (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا )32 الزخرف. قال الحاكم في المستدرك قال عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله ليعطي الدنيا من أحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا من أحب فمن أعطاه الدين فقد أحبه )) السلسلة الصحيحة للألباني 2714.
فالذي يريد من الناس أن يكونوا على طبقة واحدة من الغنى أو المستوى المعيشي إنما يصادم سنة من السنن الكونية التي أرادها الله وشاءها في خلقه.
ولذلك وصلت الدعوات الباطلة ــ إلى هذا المبدأ المظلم ــ كالشيوعية والماركسية إلى طريق مسدودة وهوةٍ سحيقة مما دفع الشعوب والأمم المنساقة وراء هذه الهتافات الرنانة والعناوين البراقة إلى نهاية مؤلمة كان ثمنها باهظاً وتكلفتها عالية.
والمتأمل لصيحات البعض والتي تطالب بإنقاذ الأمة من الفقر وتضع الخطط والبرامج لمعالجة ومحاربة الفقر ليدرك كم هو حجم المشكلة، ولا شك أن هذا عمل نبيل ، لكن أن يصل الحد ببعضهم فيجعل من الفقر والبطالة سلاحاً تهيج به الشعوب على قادتها وعلى أنظمتها بالانقلاب والثورات أو الخروج بالمظاهرات فهذا مما لا يجوز ولا يسوغ فعله ؛ ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم........ ) الحديث في صحيح البخاري ج 4 ص 1473 بل إنه عليه الصلاة والسلام حذر الأمة من فتنة المال فقال ( لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال).صحيح الجامع الألباني 2148 . ثم إنه قد وجد في عهد الرسول أهل الصفة وهم الفقراء مجتابي النمار حفاة الأقدام ينتظرون الزكوات والصدقات ولم يخرجوا على الرسول يوماً ما ليطالبوا بالأموال أو التوظيف. وأخرج البخاري في صحيحه: ج 6 ص 2670 عن محمد بن سيرين : كنا عند أبي هريرة، وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فتمخط، فقال: بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة مغشيا علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي، ويرى أني مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع. ا.هـ . إن من حكمة الله سبحانه وتعالى العظيمة أن يكون هناك تفاوت في الرزق حيث قال( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) النحل 71. إذ اقتضت حكمته جل وعلا أن لا يبسط للناس في الرزق وألا يتساووا فيه فإن الناس لو بسط لهم في الرزق لكان ذلك سبباً لبغيهم وتعديهم في الأرض ولذلك قال تعالى (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدرٍ ما يشاء إنه بعباده خبير بصير) الشورى 27
فهو جل وعلا الذي يعلم ما يصلح لعباده ومالا يصلح لهم (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيميه: ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع من الغنى، والغنى أنفع لآخرين كما تكون الصحة لبعضهم أنفع كما في الحديث الذي رواه البغوي وغيره
إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك..)الحديث. الفتاوى 11/120ـ ضعيف الجامع 75 .
وقد عالج الإسلام هذه القضية في نفوس الناس يوم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال
انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله ) صحيح مسلم ج 4 ص 2275 . وقال تعالى (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسئلوا الله من فضله).النساء32
وقال جل وعلا ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيما ً)النساء 54
أما المعترضون على الأموال التي تصرف إلى الخارج سواء لدول الكفر أو غيرها بحجة أن من في الداخل من الفقراء أولى بها، فالأصل في هذا أن الله قد شرع للمسلمين أن يعطوا المؤلفة قلوبهم من الزكاة وهم كفار وذلك رجاء إسلامهم أو لدفع شرهم : قال تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم )التوبة 60 . والمؤلفة قلوبهم هم رؤساء العشائر والقبائل، ولذلك لما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان ابن أمية ـ قبل أن يسلم ـ أوديةً مليئة بالعتاد والسلاح والدروع والسيوف والخيول بعد إحدى الغزوات ومع هذا لم يعترض أحد من الصحابة مع شدة فقرهم وحاجتهم وأنهم هم السبب في هذه الغنائم من الأموال .صحيح مسلم 2313 .
وهولاء المعترضون اليوم ربما لو أعطي أحدهم شيئاً من هذه الأموال لسكتوا عن هذه المطالبات قال تعالى( ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) التوبة 60 .
وأما الدندنة حول البطالة وأنها قضية العصر وجعلها الشغل الشاغل لشباب الأمة فيقال : إن قضية أو مسألة الفقر والبطالة مشكلة عالمية قديمة وليست مشكلة حديثة أو محلية ولكن الإسلام عالج هذه المسألة بل أسـس سبل الوقاية منها وذلك بالحث على العمل الحلال والتكسب الطيب المباح ورتب الأجر على ذلك.
وتأتي مشكلةُ البطالة في بعض الأحيان من كونِ الشخص العاطل قد يكون وضع في ذهنه وَرَسمَ لنفسهِ طريقاً لا يبغي عنه حولا فإذا لم يتحقق له ذلك الطريق بقي دون عمل أو هدف وهذا في الحقيقة تضييق لواسع. أو من كونه لايرضى إلا بمرتب رفيع أو مكان قريب من أهله وعشيرته . أومن كون الشخص لا يملك المؤهلات المهنية أوالعلمية للحصول على وظيفة مناسبة ومع ذلك تجده يبحث عن عمل يناسب ميوله أوهواه ولولم تتوفر فيه شروط ذلك العمل أو تلك الوظيفة. أترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليــبس
ثم إن الدولة ـ وفقها الله ـ ولله الحمد لم تغلق أبواب الرزق والتكسب المشروع بل حثت عليه وشجعت وفرضت نسباً معينة من السعودة في تشغيل الشركات والمؤسسات وفرضت السعودة في قطاعات كثيرة كمتاجر الخضار وكبائن الهاتف وغيرها كل هذا من أجل أن تهيـأ فرصاً كثيرة للعمل. ونحن نرى في هذه البلاد ما يقارب من 60-90 مليار ريال تحول إلى الخارج سنوياً من العمالة الموجودة إلى بلادهم فأين الشباب والباحثون عن الوظائف والرزق عن هذه الأموال والمليارات فليس من المناسب أن نجلس ننتقد أو نتذمر ونطالب بالمظاهرات والهتافات ويأتي هؤلاء ثم يجنون هذه الملايين ويحصدون الثمار المباركة من بلادنا بلاد الخير ويرحلون ونحن مازلنا نرفع اللافتات التي تندد بالبطالة وتشكوا من الفقر فأصبح الحال كحال المنبت لا أرضاً قطع ولاظهراً أبقى. إن بعض الشباب الذي قد حصل على الشهادة الجامعية أو الثانوية وبقي دون وظيفة هو في الغالب من النوع الذي قد وضَعَ في ذهنهِ وظيفةً معينةً لا يريد غيرها ولو أنه طرق أبواباً أخرى من أبواب الرزق لوجد بإذن الله ما يحسن به حاله ووضعه المعيشي فإن الذي رزقه وهو في بطن أمه في ظلمات ثلاث لاحول له ولا قوة ليس عليه بعزيز أن يرزقه وقد أعطاه من القوة والإمكانيات ما يستعين به على التكسب والطلب.
إن هذا الشاب الذي أكمل دراسته وحصل تعليمه لا ينبغي له أن يكون ناقماً على وطنه وبلده يوم أن لم يجد الوظيفة التي كان يرسم لها ويخطط بل إن المفترض في حقه أن يكون شاكراً لهذه النعمة فإن الدولة أنفقت عليه الملاييـن ستة عشر عاماً أو أقل أو أكثر حتى تخرج من الجامعة وحمل المؤهل المطلوب فالمنتظر منه الآن هو رد الجميل ومكافأة المعروف لا التسخط والتنكر للجميل . إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت الليئم تمردا
ثم ليعلم طالب الحق إن الأرزاقَ كلها بيد اللهِ كما أنَّ بيده الآجال قال تعالى
وفي السماءِ رِزقُكُم وما توعدون)(إن الله هو الرزاقُ ذو القوةِ المتين) وقال تعالى
اللهُ يبسط الرزق لمن يشاءُ ويقدر)الرعد 24 وليعلم أيضاً أنه لن تُقبضَ نفسٌ إلا وقد استوفت رزقها كاملاً دون نقص قال عليه الصلاة والسلام( الرِزقَ أشدُ طلباً للعبد من أجلهِ).حسنه الالباني صحيح الجامع 3551 .
ثم إنه ينبغي أن يتفكر طالب الرزق أنه ربما يكون محروماً بسبب ذنوبه لأن العبد قد يحرم الرزق بالذنب يصيبه قال تعالى
ولو أن أهلَ القرى آمنوا واتقَوا لفتحنا عليهم بَركاتٍ من السماءِ والأرض)الأعراف96، وقال جل وعلا عن أهل الكتاب(ولو أنهم أقاموا التوراةَ والإنجيل وما أُنزِلَ إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحتِ أرجُلهِم) المائدة66. وجاء في الحديث (وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) حسنه الالباني شرح الطحاوية 92