أبوهريرة هو عبد الرحمن بن صخر من ولد ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم ابن دوس اليماني ، فهو دوسي نسبة إلى دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران ابن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر وهو سنوءة ابن الأزد ، والأزد من أعظم قبائل العرب وأشهرها ، تنسب إلى الأزد ابن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان من العرب القحطانية .الراجح عند العلماء أن اسمه في الجاهلية : عبد شمس .
فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " عبد الرحمن " ، لأنه لايجوز تسمية إنسان بأنه عبد فلان أو عبد شيء من الأشياء ، وإنما هو عبد الله فقط ، فيسمى باسم عبد الله أو عبد الرحمن وهكذا ، وعبد الرحمن هو الذي يسكن إليه القلب .
اشتهر أبوهريرة بكنيته ، وبها عرف حتى غلبت على اسمه فكاد ينسى .
أخرج الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إنما كنّوني بأبي هريرة لأني كنت أرعى غنما لأهلي ، فوجدت أولاد هرة وحشية ، فجعلتها في كمي ، فلما رجعت إليهم سمعوا أصوات الهر من حجري ، فقالوا: ما هذا يا عبد شمس ؟ فقلت : أولاد هرة وجدتها ، قالوا : فأنت أبوهريرة ، فلزمني بعد .
وأخرج الترمذي عنه قال: كنت أرعى غنم أهلي، فكانت لي هريرة صغيرة ، فكنت أضعها بالليل في الشجرة ، فإذا كان النهار ذهبت بها معي فلعبت بها فكنوني بأبي هريرة
لكن يقول أبو هريرة رضي الله عنه :" كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوني : أبا هرٍ ، ويدعوني الناس: أبا هريرة " .
ولذلك يقول: " لأن تكنونني بالذكر أحب إلي من أن تكنونني بالأنثى" .
اسلامه وصحبته:
المشهور أنه أسلم سنة سبع من الهجرة بين الحديبية وخيبر وكان عمره حينذاك نحواً من ثلاثين سنة ، ثم قدم المدينة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، حين رجوعه من خيبر وسكن ( الصّفة) ولازم الرسول ملازمة تامة ، يدور معه حيثما دار ، ويأكل عنده في غالب الأحيان إلى أن توفي عليه الصلاة والسلام .
حفظه وقوة ذاكرته :
كان من أثر ملازمة أبي هريرة رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ملازمة تامة ، أن اطلع على ما لم يطلع عليه غيره من أقوال الرسول وأعماله ، ولقد كان سيء الحفظ حين أسلم ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال له : افتح كساءك فبسطه، ثم قال له : ضمه إلى صدرك فضمه ، فما نسي حديثاً بعده قط .هذه القصة - قصة بسط الثوب - أخرجها أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وأحمد ، والنسائي ، وأبي يعلى،وأبي نعيم .
ثناء الله تعالى والرسول صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والتابعين رضي الله عنهم وأهل العلم عليه :
أكرم الله تعالى الصحابة رضي الله عنهم بآيات كثيرة تثبت لهم الفضل والعدالة ، منها ما نزل في صحابي واحد أو في أصحاب مشهد معين مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ،كرضوانه عن الذين بايعوا تحت الشجرة في الحديبية ، ومنها ما نزل فيهم عامة ودخل تحت ظلها كل صحابي ، وكذلك أكرم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه رضي الله عنهم بمثل ذلك من الاستغفار وإعلان الفضل والعدالة لبعضهم أو لطبقة منهم أو لهم عامة .
فمن الآيات العامة الشاملة قوله عزوجل :{ مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح /29] ، ومن آخر الآيات نزولاً قوله { لَقَد تابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمهَجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهٌ فِىِ سَاعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنهُو بهَمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة/117] .
فأبو هريرة واحد من الصحابة رضي الله عنهم ينال أجر الصحبة المطلقة ، ويكسب العدالة التي لحقت بهم جميعاً وأثبتتها آيات القرآن الكريم السابقة . وهو ينال شرف دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وينال أجر الهجرة إلى الله ورسوله ، إذ كانت هجرته قبل الفتح وشرف دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، وأجر الجهاد تحت راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأجر حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبليغه .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :والذي نفس محمد بيده ، لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي ، لما رأيت من حرصك على العلم .
وفي رواية قال : لقد ظننت لايسألني عن هذا الحديث أحد أول منك ،لما رأيت من حرصك على الحديث .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أبوهريرة وعاء من العلم
قال زيد بن ثابت : فقلنا : يارسول الله، ونحن نسأل الله علما لاينسى فقال: سبقكم بها الغلام الدوسي .
جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه في مسألة ، فقال ابن عباس لأبي هريرة رضي الله عنه : أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة .
قال الشافعي : أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره .
وقال البخاري : روى عنه نحو ثمانمائة من أهل العلم ، وكان أحفظ من روى الحديث في عصره .
وقال الذهبي : الإمام الفقيه المجتهد الحافظ ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أبو هريرة رضي الله عنه الدوسي اليماني ، سيد الحفاظ الأثبات .
وقال في موضع آخر : أبو هريرة رضي الله عنه إليه المنتهى في حفظ ما سمعه من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأدائه بحروفه .
وقال أيضاً: كان أبو هريرة رضي الله عنه وثيق الحفظ ، ما علمنا أنه أخطأ في حديث .
وقال أيضاً : هو رأس في القرآن ، وفي السنة ، وفي الفقه .
وقال : أين مثل أبي هريرة رضي الله عنه في حفظه وسعة علمه .
الصحابة الذين روى عنه :
روى عن كثير من الصحابة منهم : أبو بكر ، وعمر ، والفضل بن العباس ، وأبي ابن كعب ، وأسامة بن زيد ، وعائشة رضي الله عنهم .
وأما الصحابة الذين رووا عنه : منهم ابن عباس ، وابن عمر ، وأنس بن مالك ، وواثلة بن الأسقع ، وجابر بن عبدالله الأنصاري وأبو أيوب الأنصاري رضي الله عنهم .
التابعون الذين رووا عنه :
ومن التابعين سعيد بن المسيب وكان زوج ابنته، وعبدالله بن ثعلبة ، وعروة ابن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وسلمان الأغر، وسليمان بن يسار، وعراك بن مالك ، وسالم بن عبدالله بن عمر، وأبو سلمة وحميد ابنا عبدالرحمن بن عوف، ومحمد بن سيرين ، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار رضي الله عنهم وكثيرون جداً بلغوا كما قال البخاري : ثمانمائة من أهل العلم والفقه .
عدة ما روي عنه من الحديث :
أخرج أحاديثه جمع من الحفاظ من أصحاب المسانيد ، والصحاح ، والسنن ، والمعاجم ، والمصنفات ، وما من كتاب معتمد في الحديث ، إلا فيه أحاديث عن الصحابي الجليل أبى هريرة رضي الله عنه .
وتتناول أحاديثه معظم أبواب الفقه: في العقائد ، والعبادات ، والمعاملات ، والجهاد ، والسير، والمناقب، والتفسير، والطلاق، والنكاح، والأدب، والدعوات ، والرقاق ، والذكر والتسبيح .. وغير ذلك .
روى له الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (3848 ) حديثاً وفيها مكرّر كثير باللفظ والمعنى ، ويصفو له بعد حذف المكرّر خير كثير.
وروى له الإمام بقى بن مخلد ( 201 - 276 ه ) في مسنده ( 5374 ) خمسة آلاف حديث ، وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً .
وروى له أصحاب الكتب الستة والإمام مالك في موطئه( 2218 ) ألفي حديث، ومائتين وثمانية عشر حديثاً مما اتفقوا عليه وانفردوا به (3) ، له في الصحيحين منها (609) ستمائة وتسعة أحاديث ، اتفق الشيخان : الإمام البخاري ، والإمام مسلم عن (326) ثلاثمائة وستة وعشرين حديثاً منها، وانفرد الإمام البخاري ب( 93) بثلاثة وتسعين حديثاً، ومسلم ب(190) بتسعين ومائة حديث .
أصح الطرق عن أبي هريرة :
أصح أسانيد أبي هريرة في رأي البخاري ماروي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة .
وأصح حديث ابي هريرة في رأي الإمام أحمد مارواه محمد بن سيرين ثم مارواه سعيد بن المسيب .
أما عند الإمام علي بن المديني فهم ستة : ابن المسيب ، وأبوسلمة ، والأعرج، وأبو صالح ، وابن سيرين ، وطاوس .
وهم ستة أيضاً عند ابن معين: قال أبوداود : سألت ابن معين: من كان الثبت في أبي هريرة ؟ فقال: ابن المسيب وأبوصالح ، وابن سيرين ، والمقبري ، والأعرج ، وأبو رافع ، وأربعة منهم وافق ابن المديني عليهم ، واستثنى أبا سلمة وطاوس ، وأبدلهما بالمقبري وابي رافع .
وقد أحصى أحمد محمد شاكر ، وذكر أصح أسانيد أبي هريرة ومجموع من ذكرهم ستة : مالك وابن عيينة ومعمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عنه ، ومالك عن أبي الزناد عن الأعرج عنه، وحماد بن زيد عن ايوب عن محمد بن سيرين عنه، ومعمر عن همام بن منبه عنه ، ويحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه واسماعيل ابن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان الحضرمي عنه .
كثرة حديثه وأسبابها :
كان أبو هريرة رضي الله عنه يبين أسباب كثرة حديثه فيقول : إنكم لتقولون أكثر أبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والله الموعد ، ويقولون : ما للمهاجرين لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأحاديث ، وإن أصحابي من المهاجرين كانت تشغلهم أرضوهم والقيام عليها ، وإني كنت امرءاً مسكيناً :" ألزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ملء بطني " وكنت أكثر مجالسة رسول الله، أحضر إذا غابوا ، وأحفظ إذا نسوا ، وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدثنا يوماً فقال: " من يبسط ثوبه حتى أفرغ فيه من حديثي ، ثم يقبضه إليه فلا ينسى شيئاً سمعه مني أبداً " فبسطت ثوبي - أو قال نمرتي - فحدثني ثم قبضته إلىّ ، فوالله ما كنت نسيت شيئاً سمعته منه .
وكان يقول: وأيم الله.. لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبداً، ثم يتلوا: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّهُ لِلنَّاسِ فىِ الْكِتَبِ أُوْلئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّعِنُونَ }. وكان يدعو الناس إلى نشر العلم، وعدم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، من ذلك ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه قال: " من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة " وعنه أيضاً : " ومن كذب علىّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" متفق عليه .
وقد شهد له إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة سماعه وأخذه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذه الشهادات تدفع كل ريب أو ظن حول كثرة حديثه ، حتى إن بعض الصحابة رضي الله عنهم رووا عنه لأنه سمع من النبي الكريم ولم يسمعوا ، ومن هذا أن رجلا جاء إلى طلحة ابن عبيد الله، فقال: يا أبا محمد، أرأيت هذا اليماني- يعني أبا هريرة - أهو أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منكم ؟ نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم ، أم هو يقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يقل ؟ قال : أما أن يكون سمع ما لم نسمع ، فلا أشك ، سأحدثك عن ذلك : إنا كنا أهل بيوتات وغنم وعمل ، كنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طرفى النهار ، وكان مسكيناً ضيفاً على باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده مع يده ، فلا نشك أنه سمع ما لم نسمع ، ولا تجد أحداً فيه خير يقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يقل وقال في رواية : " قد سمعنا كما سمع ، ولكنه حفظ ونسينا " .
وروى أشعث بن سليم عن أبيه قال : سمعت أبا أيوب " الأنصاري " يحدّث عن أبي هريرة فقيل له : أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحدّث عن أبي هريرة رضي الله عنه ؟ فقال: إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع ، وإني أن أحدث عنه أحبّ إليّ من أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - يعني ما لم أسمعه منه .
ثم إن جرأة أبى هريرة رضي الله عنه في سؤال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أتاحت له أن يعرف كثيراً مما لم يعرفه أصحابه ، فكان لا يتأخر عن أن يسأله عن كل ما يعرض له، حيث كان غيره لا يفعل ذلك ، قال أٌبي بن كعب : كان أبو هريرة رضي الله عنه جريئاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأله عن أشياء لا نسأله عنها .
كما كان يسأل الصحابة الذين سبقوه إلى الإسلام ، فكان لا يتأخر عن طلب العلم ، بل كان يسعى إليه في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وبعد وفاته .
وهو الذي يروى عنه : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" .
وقد رأينا أبا هريرة رضي الله عنه يحب الخير ويعمل من أجله ، فما أظنه يتأخر عن خير من هذا النوع، وهو الذي صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكلمة يعلمه إياها، ولحكمة يعظه بها
مرضه ووفاته :
لما حضرته المنية رضي الله عنه قال: لاتضربوا علي فسطاطاً ، ولاتتبعوني بنار وأسرعوا بي إسراعاً ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا وضع الرجل الصالح - أو المؤمن - على سريره قال: قدموني، وإذا وضع الرجل الكافر - أو الفاجر - على سريره ، قال ياويلي أين تذهبون بي ؟ وكانت وفاته في السنة التي توفيت فيها عائشة أم المؤمنين عام (58 ه) .
الرد على الشبهات التي أثارها أهل البدع والمخالفين حول أبي هريرة ورواياته:
ذلكم أبو هريرة رضي الله عنه الذي عرفناه قبل إسلامه وبعد إسلامه ، عرفناه في هجرته وصحبته للرسول الكريم ، فكان الصاحب الأمين والطالب المجد ، يدور مع الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في حلّه وترحاله ، ويشاركه أفراحه وأحزانه،وعرفنا التزامه للسنة المطهرة، وتقواه وورعه ، في شبابه وهرمه ...وعرفنا مكانته العلمية ، وكثرة حديثه ، وقوة حافظته ، ورأينا منزلته بين أصحابه ، وثناء العلماء عليه .
ذلكم أبو هريرة رضي الله عنه الذي صوّره لنا التاريخ من خلال البحث الدقيق ، إلا أن بعض الحاقدين الموتورين لم يسرهم أن يروا أبا هريرة رضي الله عنه في هذه المكانة السامية ، والمنزلة الرفيعة ، فدفعتهم ميولهم وأهواؤهم إلى أن يصوّروه صورة تخالف الحقيقة التي عرفناها ، فرأوا في صحبته للرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، غايات خاصة ليشبع بطنه ويروي نهمه ، وصوروا أمانته خيانة ، وكرمه رياء ، وحفظه تدجيل ،وحديثه الطيب الكثير كذباً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبهتاناً ، ورأوا في فقره مطعناً وعاراً ، وفي تواضعه ذلاً ، وفي مرحه هذراً ، وصوروا أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لونًا من المؤامرات لخداع العامة، ورأوا في اعتزاله الفتن تحزباً ، وفي قوله الحق انحيازاً ، فهو صنيعة الأمويين و أداتهم الداعية لمآربهم السياسية ، فكان لذلك من الكاذابين الواضاعين للأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افتراء وزورا !! .
وفيما يلي ذكر الأباطيل والافتراءات والشبهات التي أوردُوها ، ولنبدأ بالشبهات التي أثارها "عبد الحسين" في كتابه ( أبو هريرة ) مع أجوبتها .
"مع عبد الحسين شرف الدين الموسوي "
قال في مقدمة كتابه " أبو هريرة " (ص5) ما نصه هذه دراسة لحياة صحابي روى عن رسول الله فأكثر حتى أفرط و روت عنه صحاح الجمهور و سائر مسانيدهم فأكثرت حتى أفرطت أيضاً ، ولا يسعنا إزاء هذه الكثرة المزدوجة إلا أن نبحث عن مصدرها لإتصالها بحياتنا الدينية والعقلية اتصالا مباشرًا ولولا ذلك لتجاوزناها و تجاوزنا مصدرها إلى ما يغنينا عن تجشم النظر فيها وفيه .
ولكن اسلات هذه الكثرة قد استفاضت في فروع الدين وأصوله فاحتج بها فقهاء الجمهور ومتكلموهم في كثير من أحكام الله عز وجل وشرائعه ملقين إليها سلاح النظر والتفكير ولا عجب منهم في ذلك بعد بنائهم على إصالة العدالة في الصحابة أجمعين ، وحيث لا دليل على هذا الأصل كما هو مبين في محله بإيضاح لم يكن لنا بد من البحث عن هذا المكثر نفسه وعن حديثه كما وكيفا لنكون على بصيرة فيما يتعلق من حديثه بأحكام الله فروعاً وأصولاً وهذا ما اضطرنا الى هذه الدراسة الممعنة في حياة هذا الصحابي ( وهو أبو هريرة ) وفي نواحي حديثه وقد بالغت في الفحص وأغرقت في التنقيب حتى أسفر وجه الحق في كتابي هذا وظهر فيه صبح اليقين .
أما أبو هريرة نفسه فنحيلك الآن في تاريخ حياته وتحليل نفسيته على ما ستقف عليه في الكتاب، إذ مثلناه بكنهه وحقيقته من جميع نواحيه تمثيلا تاما تدركه بحواسك كلها .
وأما حديثه فقد أمعنا النظر فيه كما وكيفا فلم يسعنا -شهد الله - إلا الانكار عليه في كل منها. وأي ذي روية متجرد متحرر يطمئن إلى هذه الكثرة لا يعد لها المجموع من كل ما حدث به الخلفاء الأربعة وأمهات المؤمنين التسع والهاشميون والهاشميات كافة . وكيف تسنى لأمي ( تأخر اسلامه فقلت صحبته أن يعي عن رسول الله(ص) ما لم يعه السابقون الأولون من الخاصة وأولي القربى . ونحن حين نحكم الذوق الفني والمقياس العلمي نجدهما لا يقران كثيراً مما رواه هذا المفرط في اكثاره وعجائبه . فالسنة أرفع من أن تحتضن أعشاباً شائكة وخز بها أبو هريرة ضمائر الأذواق الفنية، وأدمى بها تفكير المقاييس العلمية ان يشوه بها السنة المنزهة ويسيء الى النبي وأمته (ص).... .
والحق أن الصحبة بما هي فضيلة جليلة ، لكنها غير عاصمة ، والصحابة فيهم العدول وفيهم الأولياء والأصفياء والصديقون وهم علماؤهم وعظماؤهم وفيهم مجهول الحال، وفيهم المنافقون من أهل الجرائم والعظائم، والكتاب الحكيم يذكر ذلك بصراحة ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم .
فعدولهم حجة ومجهول الحال نتبين أمره ، وأهل الجرائم لا وزن لهم ولا لحديثهم هذا رأينا في حملة الحديث من الصحابة وغيرهم والكتاب والسنة بنيا على هذا الرأي فالوضّاعون لا نعفيهم من الجرح وإن اطلق عليهم لفظ الصحابة ، لأن في اعفائهم خيانة لله عز وجل ولرسوله ولعباده ، ونحن في غنى بالعلماء والعظماء ، والصديقين ، والصالحين ، من أصحابه (ص) ومن عترته التي أنزلها منزلة الكتاب وجعلها قدوة لأولي الألباب .
وعلى هذا فقد اتفقنا في النتيجة وإن قضى الالتواء في المقدمات شيئاً من الخلاف، فإن الجمهور إنما يعفون أبا هريرة،وسمرة بن جندب،والمغيرة ، ومعاوية ، وابن العاص، ومروان، وأمثالهم تقديساً لرسول الله لكونهم في زمرة من صحبه(ص) ونحن إنما ننتقدهم تقديساً لرسول الله ولسنته (ص)شأن الأحرار في عقولهم ممن فهم الحقيقة من التقديس والتعظيم .
وبديهي - بعد - أن تكذيب كل من يروي عن رسول الله(ص) شيئاً خارجاً عن طاقة التصديق أولى بتعظيم النبي وتنزيهه وأجرى مع المنطق العلمي الذي يريده (ص) لرواد الشريعة ورواد العلم من أمته ، وقد أنذر (ص) بكثرة الكذابة عليه وتوعدهم بتبوء مقاعدهم من النار فأطلق القول بالوعيد .
وإني أنشر هذه الدراسة في كتابي هذا - أبو هريرة - مخلصاً للحق في تمحيص السنة وتنزيهها في ذاتها المقدسة وفي نسبتها لقدسي النبي الحكيم العظيم ( وما ينطق عن الهوى).
قلت: قوله بأن أبا هريرة أفرط ، فهذا كذب ، فأي إفراط كان من أبي هريرة وهو الحافظ الذي عرفناه ، والمفتي الذي احتاجت إليه الأمة بعد وفاة رؤوس الصحابة، وبقى أبو هريرة مع من بقى في المدينة مرجعاً للمسلمين في دينهم وشريعتهم ، بعد أن انطلق الصحابة إلى الأقطار الإسلامية يعلمون أهلها ويفقهونهم ، وسنتعرض للرد التفصيلي على دعواه هذه فيما بعد ، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن أبا هريرة لم يكن مفرطاً ، بل كان كغيره من علماء الصحابة ، يستفتى فيفتى ، ويسأل فيجيب ، فلم يكن مفرطاً ، في عهد الخلفاء الراشدين ولا بعدهم ، إنما وثق به القوم، وعرفوا مكانته ، فوضعوه حيث يستحق ، فكم من راحل يقطع المسافات ليرى أبا هريرة ، وكم من مقيم يترك كبار الصحابة ويأتيه في مسألة أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فأبو هريرة لم يكثر من عنده ، إنما وثق الناس بحفظه فحرصوا على أن ينهلوا منه، فما جريرته في ذلك ، وقد شهد بعلمه وحفظه ابن عمر وطلحة بن عبيد الله والزبير وغيرهم ، حتى إنه قال - عندما استكثروا حديثه - : ما ذنبي إذا حفظت ونسوا .
جاء في مصادر القوم ( البحار 18/13) " باب معجزات النبي في استجابة دعائه" نقلا عن الخرائج : أن أبا هريرة قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني أسمع منك الحديث الكثير أنساه ، قال : أبسط رداك قال : فبسطته فوضع يده فيه ثم قال : ضمّه فضممته، فما نسيت كثيرا بعده .
فما ذنب أبي هريرة رضي الله عنه إذا دعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطيه الله الحفظ ؟!، بل هذا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، يزعم أولياء " المؤلف" أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا له أن يعطيه فهماً وحفظاً ، فما نسى آية من كتاب الله !! .
ففي " البحار" (40/139 ) "باب 93 أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علّمه ألف باب" !! عن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (ع) قال : كنت إذا سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجابني ، وإن فنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت عليه آية في ليل ولا نهار ولا سماء ولا أرض ولا دنيا ولا آخرة ولا جنة ولا نار ولا سهل ولا جبل ولا ضياء ولا ظلمة إلا أقرأنيها وأملاها عليّ ، وكتبت بيدي وعلّمني تأويلها وتفسيرها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها ، وكيف نزلت وأين نزلت وفيمن أنزلت إلى يوم القيامة ، دعا الله لي أن يعطيني فهماّ وحفظاّ ، فما نسيت آية من كتاب الله ، ولا على من أنزلت أملاه عليّ .
فما ذنب علي رضي الله عنه إذا دعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطيه الله الحفظ ؟! بل ، ما ذنبه إذا علمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - حسب ادعاء القوم - ألف باب أو كلمة ؟!
وعن الثمالي عن أبي جعفر قال: قال علي (ع): لقد علّمني رسول الله ألف باب كل باب يفتح ألف باب!! . وفي وراية " علّم رسول الله علياً ألف كلمة كل كلمة تفتح ألف كلمة " .
ونقل محمد مهدي في كتابه " الجامع لرواة وأصحاب الإمام الرضا" (1/244):
" لقول أمير المؤمنين(ع) : اقتربوا اقتربوا وسلوا وسلوا فإن العلم يفيض فيضاً، وجعل يمسح بطنه!! ويقول: ما ملئ طعام ولكن ملأه علم!! ..." .
ونقل النجاشي في رجاله (2/399-400) تحت ترجمة هشام بن محمد بن السائب....، المشهور بالفضل والعلم، وكان يختص بمذهبنا وله الحديث المشهور، قال: اعتللت علّة عظيمة، نسيت علمي، فجلست إلى جعفر بن محمد(ع)، فسقاني العلم في كأس، فعاد إليّ علمي ..
أليس غريباً بعد ذلك أن يستنكر المؤلف كثرة أحاديث أبي هريرة وعلمه؟!!
ثم من العجيب أن يثير هذا في القرن العشرين !! ، فهل يعجب من قوة ذاكرة الإنسان ولاسيما العرب ؟، فقد كان العرب يحفظون أضعاف أضعاف ما حفظه أبو هريرة ؟!!
لقد حفظوا القرآن الكريم والحديث والأشعار ، فماذا يقول المؤلف" الأمين" في هؤلاء ؟ ماذا يقول في حفظ أبي بكر أنساب العرب؟ وعائشة رضي الله عنها شعرهم؟
وماذا يقول هذا الجاهل في حماد الراوية الذي كان أعلم الناس بأيام العرب وأشعارا وأخبارها وأنسابها ولغاتها ؟ وماذا يقول فيه إذا علم أنه روى على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات ، من شعر الجاهلية دون الإسلام؟
ماذا يقول في حفظ الإمام البخاري في الحديث، فقد كان يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح ، وقد صنّف كتابه في ستمائة ألف حديث .
وماذا يقول في حفظ ابن عقدة ، فقد كان يحفظ مائة وعشرين ألف حديث!!
نقل آية الله الكلبايكاني في كتابه ( أنوار الولاية ص 415) " في تحقيق سند الحديث الشريف " قال الشيخ الطوسي: سمعت جماعة يحكون عنه أنه قال: أحفظ مائة وعشرين ألف حديثا بأسانيدها !! ، وأذاكر بثلاثة مائة ألف حديث )!! .
إن مشكلة عبد الحسين أنه يدلس في كل صفحة من صفحات كتابه ، فهو يزعم أن أبا هريرة أفرط ، وينسى أو بالأحرى يتناسى أن أئمته الذين يزعمون فيهم العصمة ! ورواتهم ، قد رووا أضعاف ما رواه أبو هريرة ، حتى أفرطوا وأفرطت كتبهم الأربعة أو أصولهم الأربعمائة ! .
فعلاوة على الباب السابق الذي عقده المجلسي من بحاره والتي استغرق عرض الأحاديث فيه من (ص127 -200) ، علاوة على ذلك ، فقد زعموا لأئمتهم مثل ذلك !
قلت: استمع واقرأ واعجب من مرويات ثقاته وعددها !! .
رواة الشيعة يفرطون :
فهذا عالم الشيعة في الجرح و التعديل أبو العباس النجاشي يروي في رجاله المعروف برجال النجاشي أن الراوي أبان بن تغلب روى عن الإمام جعفر الصادق (30) ألف حديث!! ، بل أن هذا المؤلف بنفسه نقل هذا الكلام في كتابه الموضوع على شيخ الأزهر المسمى" بالمراجعات " .
قال المؤلف في مراجعاته ما نصه فمنهم أبو سعيد أبان بن تغلب رباح الجريري القارىء الفقيه المحدث المفسر الأصولي اللغوي المشهور،كان من أوثق الناس ، لقى الأئمة الثلاثة فروى عنهم علوماً جمة و أحاديث كثيرة ، وحسبك أنه روى عن الصادق خاصة ثلاثين ألف حديث!! كما أخرجه الميرزا محمد في ترجمة أبان من كتاب منتهى المقال بالإسناد إلى أبان بن عثمان عن الصادق(ع)...) .
وقال عبد الحسين: ( قال الصادق لأبان بن عثمان: إن أبان بن تغلب روى عني ثلاثين ألف حديث!! فاروها عني).
بل أكثر رواتهم الموثقين يروون أضعاف أضعاف هذا العدد .
محمد بن مسلم بن رباح: فهذا عمدتهم في الرجال يذكر أحد رواتهم ويُدعى محمد بن مسلم بن رباح فيقول أنه : سأل الباقر عن ثلاثين ألف حديث!! و سأل الصادق عن ستة عشر ألف حديث!! .
جابر بن يزيد الجعفي: ومن المكثرين المفرطين جابر بن يزيد الجعفي ،كان يجيش في صدره كثرة أحاديث المعصومين حتى يأخذه الجنون، فكان يذهب إلى المقبرة ويدفن أحاديثهم !!
روى الكشي عن جابر الجعفي قال حدثني أبو جعفر (ع) بسبعين ألف حديث!! لم أحدث بها أحداً قط ولا أحدث بها أحد أبدا ، قال جابر فقلت لأبي جعفر (ع) جعلت فداك أنك قد حملتني وقراً عظيماً بما حدثتني به من سرّكم!! الذي لا أحدث به أحداً!! ، فربما جاش في صدري حتى يأخذني منه الجنون !! قال يا جابر فإذا كان ذلك فاخرج إلى الجبانة فاحفر حفيرة ودل رأسك ثم قل حدثني محمد بن علي بكذا وكذا .
وأخرج الكشي بإسناده عن جابر الجعفي قال : رويت خمسين ألف حديث ما سمعه أحد مني .
قال الحر العاملي في خاتمة الوسائل ما نصه : " أنه روى سبعين ألف حديث!! عن الباقر وروى مائة وأربعين ألف حديث!! ، والظاهر أنه ما روى أحد بطريق المشافهة عن الأئمة أكثر مما روى جابر .
وهؤلاء المكثرون المفرطون من الحديث ذكرهم عبد الحسين بنفسه في كتابه الذي لفقه وسماه " المراجعات " و دافع عنهم و اثنى عليهم . فيا عقلاء من الذي أكثر و أفرط ؟! إي إفراط كان من أبي هريرة رضي الله عنه؟
وأما أن الصحاح وسائر مسانيد الجمهور قد أفرطت فيما روته عنه ، فهذا ظلم وجور ، لا نوافقه عليه ، ولا يقبله إنسان منصف ، ولا يقره عليه عقل راجح ، بل هذا الادعاء كذب مكشوف ، لأن صحاحهم هي التي أفرطت بإعترافه ! .
قال في كتابه الذي لفقه " المراجعات " ما نصه (...وأحسن ما جمع منها الكتب الأربعة التي هي مرجع الإمامية في أصولهم و فروعهم من الصدر الأول إلى هذا الزمان، وهي : الكافي، و التهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه، وهي متواترة ومضامينها مقطوع بصحتها، والكافي أقدمها و أعظمها وأحسنها و أتقنها ، وفيه ستة عشر ألف و مئة وتسعة وتسعون حديثا، وهي أكثر مما اشتملت عليه الصحاح الستة بأجمعها، كما صرح به الشهيد في الذكرى وغير واحد من الأعلام ) .
فأنظروا إلى قوله وهي أكثر مما اشتملت عليه الصحاح الستة بأجمعها ) !
فيا عقلاء، كتب من التي أكثرت و أفرطت ؟! كتب الحديث عن أهل السنة لم تضم بين دفاتها أي حديث إلا بعد تنقيب وتمحيص .
إن كتب السنة لم تضم بين دفاتها أي حديث إلا بعد بحث وتنقيب وتمحيص ، ومقارنة وتحقيق ، يتناول حياة الراوي وسلوكه وحفظه ، ولا يؤخذ عن إنسان إلا بعد التحقق من عدالته ، فكان النقد يتناول الرجال والمتن ، ولم يكن النقد خارجياً فقط ، بل كانوا يعرضون الرواية على القرآن والسنة ، حتى يتأكدوا من صحة الخبر ، وكان منهم من يجمع الأخبار المتعارضة فيسلك طريق الدراسة والموازنة والتوفيق والترجيح حتى يتبين له وجه الحق والصواب ، فلم تكتب الصحاح إلا على أسس علمية دقيقة ، تتناول السند والمتن على السواء ، وهذا بخلاف كتب القوم ، يقول الاستاذ عبد الله فياض في كتابه الإجازات العلمية عند المسلمين : ( ويبدو أن عملية انتحال الأحاديث من قبل غلاة الشيعة القدامى ودسّها في كتب الشيعة المعتدلين لم تنته بمقتل المغيرة بن سعيد (سنة 119ه)... بل نجد إشارة للعملية نفسها تعود إلى مطلع القرن الثالث الهجري ولعل ذلك ما يدل على عمق حركة الغلو من جهة واستمراريتها من جهة أخرى ...) .
ويقول الأستاذ عبد الله فياض ما لفظه: ( ومن الجدير بالذكر أنه لم تجر عملية تهذيب وتشذيب شاملة لكتب الحديث عند الشيعة الإمامية على غرار العملية التي أجراها المحدثون عند أهل السنة والتي تمخض عنها ظهور الصحاح الستة المعروفة ونتج عن فقدان عملية التهذيب لكتب الحديث عند الشيعة الأمامية مهمتان هما :
أولاً: بقاء الأحاديث الضعيفة بجانب الأحاديث المعتبرة في بعض المجموعات الحديثية عندهم .
ثانياً : تسرب أحاديث غلاة الشيعة إلى بعض كتب الحديث عند الشيعة وقد تنبه أئمة الشيعة الإمامية وعلمائهم إلى الأخطار المذكورة وحاولوا خنقها في مهدها ولكن نجاحهم لم يكن كاملا نتيجة لعدم قيام تهذيب شاملة لكتب الحديث) .
وهذا بخلاف كتب الحديث عند أهل السنه كما أشار إلى ذلك الأستاذ فياض ، فأنهم هذّبوا كتبهم من الروايات الموضوعة حتى ألفوا مجموعة كبيرة من المؤلفات في الأحاديث الموضوعة فألف الحافظ الجوزجاني المتوفي سنة (543ه) أول كتاب في الموضوعات أسمه كتاب: الأباطيل ثم الحافظ ابن الجوزي المتوفى سنة (597 ه) ألف كتاب سماه الموضوعات ثم الصاغاني اللغوي المتوفى سنة (650 ه) له رسالتان في ذلك ثم السيوطي المتوفى سنة (910ه) وله كتب في التعقيب على ابن الجوزي وهى : النكت البديعات والوجيز واللاّلي المصنوعة والتعقبات .
ثم محمد بن يوسف بن علي الشامي صاحب السيرة المتوفي سنة (942ه) له كتاب " الفوائد المجموعة في بيان الأحاديث الموضوعة " ثم علي بن محمد بن عراق المتوفي سنة (963) له كتاب: تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة " ثم محمد بن طاهر الهندي المتوفى سنة (986 ه) له كتاب " تذكرة الموضوعات " ثم الملا علي قاري المتوفي سنة (1014ه) له كتاب تذكرة الموضوعات " ثم الشيخ السفاريني الحنبلي المتوفي سنة (1188ه) له كتاب " الدررالمصنوعات في الأحاديث الموضوعات" في مجلد ضخم ..ثم القاضي الشوكاني المتوفى سنة (1250ه) ألف كتاباً "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة "ولأبي المحاسن محمد بن خليل المتوفى سنة (1305) ألف كتابا " اللؤلؤ الموضوع " فيما قيل : لاأصل له أو بأصله موضوع، ولمحمد البشير ظافر الأزهري المتوفى سنة (1325ه) كتاب سماه " تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة على سيد المرسلين " .
كما أن هناك كتب اشتملت على الموضوع والواهي من الأحاديث مثل "التذكرة" للمقدسي و"المغني" عن الحفظ والكتاب " لعمر بن بدر الموصلي المتوفى سنة (543 ه) وله أيضا كتاب " العقيدة الصحيحة في الموضوعات الصريحة " ومنها كتب يكثر فيها بيان الموضوع منه : تخريج أحاديث الأحياء للعراقي ومختصره لصاحب القاموس والمقاصد الحسنة في الأحاديث الدائرة على الألسنة للسخاوي وللحافظ ابن القيم رسالة باسم " المنار " فيها مباحث في شأن الحديث الموضوع ونحوه... وأخيرا ألف العلامة المعاصر الشيخ الألباني كتاباً ضخم للاحاديث الموضوعة سماه "سلسلة الأحاديث الموضوعة " و"سلسلة الأحاديث الصحيحة " .
طبعاً هذا بخلاف كتب الحديث عند الشيعة حيث لم تتعرض لمثل هذا وتجد الأحاديث الموضوعة بجانب الأحاديث الصحيحة بل لم يؤلف الشيعة إلي يومنا هذا كتاباً مفصلاً في معرفة الأحاديث الموضوعة رغم دس المغيرة وأبي الخطاب أحاديث كثيرة في أحاديثهم التي يزعمون أنهم أخذوها من أهل البيت ... بل نظرة واحدة على كتاب الكافي تكفي مؤونة التفصيل .. كتلك الأحاديث الزاعمة على أهل البيت أن القراّن محرف أو إن الأئمة يعلمون علم الغيب أو إن الأئمة يوحى إليهم أو أن الأئمة يعلمون متى يموتون ... إلى آخر هذه الأحاديث الموضوعة ، ثم ألا يعد الكليني صاحب الكافي من الغلاة الحاقدين، ألم يقل بأن الصادق يقول بتحريف القراّن حتى عقد باباً في كتاب الحجة من كافيه وأورد عشرات الأحاديث على لسان الصادق بتحريف القراّن أن الآية لم تنزل هكذا بل هكذا نزلت حسب زعمه الفاسد .
ولهذه الأسباب لم يؤلف الشيعة كتاباً واحداً في الأحاديث الموضوعة لأنهم أن فعلوا ذلك لانهار " مذهب عبد الحسين " من أساسه لأنه قائم على الأحاديث الموضوعة !!
يقول شيخهم هاشم معروف في كتابه "الموضوعات في الآثار والأخبار" (ص253): ما نصه وبعد التتبع في الأحاديث المنتشرة في مجاميع الحديث كالكافي والوافي وغيرهما نجد الغلاة والحاقدين على الأئمة الهداة لم يتركوا باباً من الأبواب إلا ودخلوا منه لإفساد أحاديث الأئمة و الاساءة إلى سمعتهم وبالتالي رجعوا إلى القراّن الكريم لينفثوا سمومهم ودسائسهم لأنه الكلام الوحيد الذي يتحمل مالا يتحمله غيره ففسروا مئات الآيات بما يريدون وألصقوها بأئمة الهداة زورا وبهتاناً وتضليلا وألف علي بن حسان، وعمه عبدالرحمن بن كثير وعلي بن أبي حمزة البطائني كتبا في التفسير كلّها تخريف وتحريف وتضليل لا تنسجم مع اسلوب القرآن وبلاغته وأهدافه ) .
لذلك نقول " لعبد الحسين" أنك أخطأت طريقك ، وتنكبت جادة الصواب ، واتهمت المسلمين جميعاً بأنهم لم يعرفوا قيمة "الصحاح " ، في حين إنك لم تعرف حقاً قيمة صحاحك! ، ولكن " المؤلف " لا يذكر هذا ، ليعمى على المسلمين طريقهم ويشككهم في كتبهم المعتمدة ، يريد منّا أن نسلّم له بما يقول ويرى ، فنحن القُرّاء لا نعرف شيئاً عن مذهبه ، لا يمكننا أن نحكم عليه ما لم ندرس "مذهبه " دراسة نزيهه محررة ، نحكم عليه من خلالها ، أما أن نكون فريسة خياله وأهوائه فهذا خلاف البحث العلمي ، وما عهدنا بحثاً توضع نتائجه قبل منا قشته ومحاكمته ، فهذا خلاف المنهج العلمي ، لذلك كان الأولى لهذا المؤلف أن يقوم "بعملية تهذيب وتشذيب شاملة لكتبهم الحديثية ولا سيما " الكافي " من الكفريات كأحاديث تحريف القرآن وكفر الصحابة ولعنهم والقدح في أعراض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن والغلو في الأئمة إلى درجة التأليه ... بدلا من قوله: ( الواجب تطهير الصحاح والمسانيد من كل ما لا يحتمله العقل من حديث أبي هريرة ) .
كان الأولى به أن يقوم بهذا التطهير، بدلا من أن يشاقق الله ورسوله، ويحكم على " الكافي" ( بأنه أقدم و أعظم و أحسن و اتقن الكتب الأربعة )، لأن أهل السنة قاموا بذلك التطهير وقد تمخض عنه ظهور الكتب الستة المعروفة .
وكان الأولى به أن يقوم بذلك ، بدلا من تأليفه كتب مسمومة تفرق الأمة وتشتت شملها ، ككتابه " الفصول المهمة في تأليف الأمة " وهو في الحقيقة أولى
أن يسمى " بالفصول المهمة في تشتيت الأمة " . وبدلا من اهدار الوقت في الفحص والتنقيب عن صحابي أجمعت الأمة على توثيقه بتعديل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم له.... وكان الأولى له أن يبحث في حياة شيخه " النوري الطبرسي" ، الذي ألف كتاباً في إثبات تحريف القرآن المجيد سماه " فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" ، أورد فيه حوالي (1800) رواية من رواياتهم التي تزعم تحريف القرآن الكريم . كان الأولى على أقل تقدير أن يرد على شيخه ويكفره لتكفير الله له بدلا من أن يكفر أبا هريرة برواية مكذوبة مفتراة وأنه من أهل النار ، وبدلا أن يمجد مولاه بأنه: " شيخ المحدثين في عصره وصدوق حملة الآثار