بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تدليس التسوية والصيغة
هذا يعني: أن التدليس في الغالب أنه يأتي من باب التزين، إما بإيهام علو الإسناد، أو كثرة الشيوخ، أو الرحلة في طلب الحديث، أو غير ذلك من الأشياء، وهذا كما في الحديث الصحيح: المتشبع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور وبهذا انتهى كلام المؤلف على التدليس، وبقي نوعان من التدليس لم يذكرهما المؤلف، وهما جديران بالذكر.
الـأول: هو تدليس التسوية، ويسميه العلماء المتقدمون: التسوية، بدون كلمات التدليس، وهذا التدليس -تدليس التسوية- هو أن يسقط الراوي شيخا، أن يسقط الراوي -أو هذا المدلس- أن يسقط المدلس راويا بين راويين حصل السماع بينهما، وهذا يوضحه المثال.
المثال عندنا هُشيم روى حديثا: هُشيم بن بشير، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن الزهري، هكذا هُشيم أسقط راويا بين يحيى بن سعيد والزهري، وهذا الراوي هو الإمام مالك، فصحة الإسناد: هُشيم، عن يحيى، عن مالك، عن الزهري، هكذا صحة الإسناد، لكن هُشيم بن بشير معروف بتدليس التسوية، أسقط مالكا بين يحيى والزهري، وسوَّى الإسناد.
هنا الانقطاع لا يظهر، الانقطاع هنا لا يظهر، لماذا؟ لأن يحيى بن سعيد أصلا يروي عن الزهري، يحيى بن سعيد أصلا له رواية عن الزهري، ويحيى بن سعيد ليس مُدلسا، فجاء هشيم فأسقط مالكا، وقال: يحيى بن سعيد عن الزهري.
فالذي ينظر في هذا الإسناد: يحيى بن سعيد الأنصاري.
أولـا: ثبت سماعه من الزهري.
وثانيا: أنه ليس بمدلس، فعنعنته على الاتصال، لكن تبين بعد ذلك بجمع طرق الحديث أن هشيم دلس هذا الحديث، وهذا يسمى تدليس تسوية، إذن هُشيم بن بشير ما أسقط شيخه، وإنما أسقط شيخ شيخه، وهذا ينطبق على شيخ شيخه فمن فوقه، إذن هذا هو يسمى تدليس التسوية، وهذا شر التدليس؛ لأنه لا يستبين لكل أحد، وبخاصة إذا كان الرواي المُسقَط ضعيفا.
والثاني: هو تدليس الصيغة، يعني: يدلس صيغة الأداء، فمثلا أبو نُعيم صاحب الحلية قال فيما سمعه بالإجازة: "أخبرنا" والمشتهر عند المتأخرين أن كلمة "أنبأنا" إنما هي خاصة بالإجازة، لكن أبا نُعيم يقول: "أخبرنا" وهو يروي بالإجازة.
فكلمة "أخبرنا" عند العلماء معروفة أنها للقراءة على الشيخ، لما تُحمِّل على الشيخ عن طريق القراءة، فيظن السامع أو القارئ لكلام أبي نُعيم أنه رواه عن شيخه بالقراءة، وهذا يسميه بعض العلماء تدليسا، وأُدخل ضمن المدلسين من أجل هذا.
بقي أمر آخر، وهو أن رواية المدلِّس، أو الحديث المدلَّس هذا من الأحاديث إذا رواه المدلس بالعنعنة وثبت تدليسه فإنها محمولة على الانقطاع، إلا في الأئمة المعروفين المشهورين.
فإن كلمة "عن" لا تُحمل على الانقطاع إلا في حالة واحدة، لا يحكم لها بالانقطاع إلا في حالة واحدة، وهي إذا ما ورد في هذا الحديث نكارةٌ في إسناده أو متنه، وهذا الشيخ يرويه بـ "عن" فإنه يقال: هذا مما دلسه الشيخ، وتحمل النكارة على هذا الراوي المسقَط، لا على هذا الإمام، لا على الإمام، وهذا هو صنيع الأئمة، سواء في قتادة، في الحسن البصري، في غيره يعملون بهذا.
ومر معكم أن البخاري أخرج للوليد عن الأوزاعي، الوليد معروف بالتدليس، مشهور به، أخرج عنه صيغة العنعنة؛ لأنه أولـا: مكثر على شيخه، وثانيا: هو من الأئمة الثقات، والحديث ليس فيه نكارة؛ فلذلك يمشُّون الأحاديث، وهذا هو عمل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من المتأخرين.
إذن الحديث المدلَّس يحكم له بالانقطاع، أو الراوي المدلِّس إذا رواه بالعنعنة يحكم له بالانقطاع، إذا كان الراوي إما ضعيفا مدلِّسا، ضعيفا أو مدلِّسا، ليس من الأئمة الثقات المعروفين المشهورين، فهذا يحكم لحديثه بالانقطاع.
أما إذا كان من الأئمة المكثرين من الرواية، الواسعي الرواية، مثل أبي إسحاق، ومثل أبي الزبير، ومثل قتادة، ومثل الثوري وغيرهم، فهؤلاء الأصل في حديث عنعنتهم حملها على الاتصال، وبخاصة عن شيوخهم الذين أكثروا عنهم في الرواية.
فمثلا الأعمش، ذكر الذهبي في ترجمته في الميزان أن الراوي إذا كان مكثرا عن شيخه -ولو كان مدلسا- فإنه تحمل عنعنته على الاتصال، فإذا كان هذا الراوي من الأئمة المكثرين، ودلس أو روى بالعنعنة، فالأصل حمل عنعنته على الاتصال -وإن كان موصوفا بالتدليس- إلا إذا قام قائم يمنع منها، وهو وجود النكارة في الإسناد أو المتن، فيحمل على الراوي المسقَط لا على هذا الإمام، وهذا هو عمل الأئمة؛ ولهذا تسلم من كثير من الإشكالات المورَدة على الصحيحين.
اُعترِض على الصحيحين بأن خُرِّج لهم أو خرَّجوا أحاديث أناس موصوفين بالتدليس، وروى الحديث بصيغة العنعنة، وتكلف العلماء في الجواب، لكن عمل الأئمة المنطبق الموافق لما في الصحيحين أن هؤلاء الأئمة عنعنتهم محمولة على الاتصال، أو كان هذا الراوي مكثرا عن شيخه، إذا كان شيخه مكثرا عنه الرواية وكان مدلسا تحمل العنعنة على الاتصال؛ من أجل كثرة الرواية عن شيخه.
وبهذين الأمرين يسلم لنا أو تسلم لنا كثير من الاعتراضات على الصحيحين؛ ولهذا الدارقطني في التتبع ما جاء بهذه التعليلات التي أُعِلَّت فيها في الصحيحين، يعني: لو مشينا، لو أخذ بها الدارقطني في التتبع لبلغ ما تتبعه الدارقطني عليهما شيئا كثيرا، لكن لما كانت القاعدة واضحة عندهم، والبخاري ومسلم من أئمة هذا الفن، وعملهما موافق لأئمة هذا الشأن؛ فإن الأحاديث المخرجة عندهما من رواية المدلسين منطبق على عمل جمهور أئمة العلماء.
والحديث المدلس هو إذا ثبت التدليس يكون حديثا منقطعا، فإذا كنا لا نعلم حال المنقطع، ما ندري من الساقط في الإسناد؟ فهذا إذا جاءه طريق أخرى أو طرق أخرى فإنها تقويه، وترفعه للحسن لغيره، وأما إذا عرفنا الساقط فإن هذا الساقط يعامل بحاله إن كان متروكا فلا يجبر حديثه، وإن كان ضعيفا أو مجهولا فإنه ينجبر حديثه، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
دمتم برعاية الرحمن وحفظه