السيرة النبوية والعقيدة
البناء التربوي السليم لا بد أن يقوم على أساس عقدي صحيح
, ومن أجل هذا كان أول شيء دعا إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو
التوحيد وتصحيح العقيدة ، وقد مكث ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مكة المكرمة
بعد بعثته ثلاث عشرة سنة يدعو الناس لتصحيح وترسيخ العقيدة في قلوبهم ، ولم
تـنزل عليه الفرائض ولا التشريعات إلا في المدينة المنورة ، فبدون صحة
العقيدة وسلامتها تصبح الأعمال هباءً لا وزن لها , قال تعالى مخاطباً نبيه
محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ : {
وَلَقَدْ أُوحِيَ
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ *
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ }(الزمر65 : 66) .
ومن خلال دراستنا للسيرة النبوية المطهرة نرى اهتمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعقيدة ، ومن ثم فقد بدأ دعوته بقوله : (
يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) رواه
أحمد ، ومعنى لا إله إلا الله : لا معبود بحق إلا الله .
وقد أمضى حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الدعوة إلى عقيدة التوحيد ، وجاهد أعداءه من أجلها ، حتى قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (
أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ) رواه
البخاري .
وحينما
أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسله وأصحابه للدعوة إلى الإسلام أمرهم
أن يبدءوا بالدعوة إلى عقيدة التوحيد قبل كل شيء ، كما في وصيته ل
معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عندما بعثه إلى اليمن وقال له : (
إنك
ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم
خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد
فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك
فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ) رواه
البخاري .
والمواقف من حياة وسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تبين اهتمامه بالعقيدة كثيرة ، منها :
حين
فتح الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة المكرمة وهو الفتح الأعظم ،
الذي أعز الله به دينه ورسوله ، دخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسجد
الحرام ، وحوله أصحابه ، فاستلم الحجر الأسود وطاف بالبيت ، وكان حول البيت
ثلاثمائة وستون صنما ، فجعل يطعن بعود تلك الآلهة المزيفة المنثورة حول
الكعبة ، وهو يردد قول الله تعالى : {
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً }(الإسراء:81)
، والأصنام تتساقط على وجهها على الأرض ، ونادى مناديه بمكة قائلاً : من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره ، فطهر الله
جزيرة العرب من رجس الوثنية ، وهيمنة الأصنام والتماثيل .
ولما اطمأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد فتح مكة بعث
خالد بن الوليد ـ
رضي الله عنه ـ إلى العزى ـ أعظم أصنامهم ـ بنخلة ليهدمها ، وكانت بيتا
يعظمه هذا الحي من قريش وَكِنَانَة وَمُضَر كلها ، وكانت سدنتها وحجابها
بني شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم ، فخرج إليها
خالد في ثلاثين فارساً حتى انتهى إليها ، فهدمها .
ولما
سألت ثقيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يترك لهم صنمهم اللات ،
وألحوا عليه في أن يؤجل هدم الصنم ثلاث سنين ، أبَى ، فما برحوا يسألونه
ويأبى عليهم ، فألحوا على أن يؤجل تحطيمها سنة ويأبى عليهم ، حتى سألوه
شهراً واحداً فأبى أن يتركها ، فبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنهما ـ يهدمانها ، فهدماها في مشهد عظيم .
هكذا
كان موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حماية التوحيد ، وسد الذرائع
المفضية إلى الشرك بالله ، لأن الشرك إذا حدث وسُكِت عنه وعن الأسباب التي
ربما تؤدي إليه ، لا يلبث أن يصير في حكم الواقع ومن المسلَّمات ، ومن ثم
فقد دلت الأدلة الشرعية من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على وجوب هدم
الأصنام ، ومن ذلك ما رواه
عمرو بن عبسة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وبأي شيء أرسلك ؟ ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (
أرسلني بِصِلة الأرحام ، وكسر الأوثان ، وأن يُوحَد الله لا يُشْرك به شيء ) رواه
مسلم .
يقول
ابن القيم في
زاد المعاد ـ في فقه قصة وفد ثقيف ـ : " .. هدم مواضع الشرك التي تتخذ
بيوتا للطواغيت ، وهدمها أحب إلى الله ورسوله ، وأنفع للإسلام والمسلمين من
هدم الحانات والمواخير ، وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد
من دون الله ، ويشرك بأربابها مع الله، لا يحل إبقاؤها في الإسلام ، ويجب
هدمها ، ولا يصح وقفها ، ولا الوقف عليها ، وللإمام أن يقطعها وأوقافها
لجند الإسلام ، ويستعين بها على مصالح المسلمين " .
وفي غزوة حنين
خرج مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعض حديثي العهد بالجاهلية ،
وكانت لبعض القبائل ـ قبل الإسلام ـ شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط
يأتونها كل سنة ، فيعلقون أسلحتهم عليها للتبرك بها ، ويذبحون عندها ،
ويعكفون عليها .
يقول
أبو واقد الليثي - رضي الله عنه - : (
إن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى حنين مَرَّ بشجرة للمشركين
يقال لها : ذات أنواط ، يعلقون عليها أسلحتهم ، فقالوا : يا رسول الله ،
اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -
: سبحان الله ! هذا كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ،
والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم ) رواه
الترمذي .
وهذا
يعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد الخالص لحداثة إسلامهم ، لكن النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ مع رفقه بمن أخطأ لم يسكت على هذا الخطأ ، بل حذر من
آثاره ونتائجه ، وأوضح لهم خطورة ما في طلبهم من معاني الشرك .. فقد كان ـ
صلى الله عليه وسلم ـ يربي أصحابه على التوحيد ، ويصحح ما يظهر من انحراف
في الاعتقاد ، حتى في أشد الظروف والمواجهة مع الأعداء .
ومن
الصور الظاهرة في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرصه على تربية
الأطفال على عقيدة التوحيد ، وغرسه لها في قلوبهم ، من ذلك أمره الوالدين
بالتأذين في أذن الطفل حين ولادته حتى يكون أول ما يقرع أذنه كلمات التوحيد
.
عن
عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه قال : (
رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أذَّن في أذن الحسن بن علي ـ حين ولدته فاطمة ـ بالصلاة ) رواه
الترمذي .
قال
ابن القيم في
كتابه تحفة المودود في أحكام المولود : " فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا لا
إله إلا الله محمد رسول الله ، وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله
سبحانه وتوحيده ، وأنه سبحانه فوق عرشه ينظر إليهم ويسمع كلامهم وهو معهم
أينما كانوا " .
ويقول : " وسر التأذين ـ والله أعلم ـ : أن يكون أول ما
يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته ، والشهادة التي
أول ما يدخل بها في الإسلام ، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله
إلى الدنيا ، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها " .
وعن
أنس بن مالك - رضي الله عنه ـ قال : (
خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما أمرني بأمر فتوانيت عنه أو ضيعته فلامني ، فإن لامني أحد من أهل بيته قال : دعوه فلو قُدِّر ـ أو قال لو قضي ـ أن يكون كان ) رواه
أحمد .
وعن
عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (
كنت
رديف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا غلام أو يا غليم ، ألا أعلمك
كلمات ينفعك الله بهن ؟ ، فقلت : بلى ، فقال : احفظ الله يحفظك ، احفظ
الله تجده أمامك ، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل
الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، قد جف القلم بما هو كائن ، فلو أن الخلق
كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ،
وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، واعلم أن في
الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ، وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب
وأن مع العسر يسرا ) رواه
أحمد .
إن
الاهتمام بتربية الناس على العقيدة ودعوتهم لها ـ ولاسيما الصغار ـ واضح
في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد آتت هذه التربية ثمارها
المباركة في إخراج ذلك الجيل الفريد الذي مكَّنَ الله ـ عز وجل ـ به لدينه ،
وجعله سبباً لانتصار الإسلام وانتشاره في مشارق الأرض ومغاربها ، فما
أحوجنا إلى دراسة السيرة النبوية وربطها بالواقع ، فليست سيرة نبينا ـ صلى
الله عليه وسلم ـ مجرد أحداث وقصص وقعت وانتهت ، بل الأمر أكبر من ذلك ،
فقد حفظها الله لنا لتكون لنا نورًا نستضيء به ، ودربًا نسير عليه ، ونطبقه
في واقعنا .
http://www.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=176739