[size=16]
[center][size=16][size=21][size=16][size=25][/size][/size] [/size][/size][/size]
[/center]
لا تعينوا عليه الشيطان
عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أُتي النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل قد شرب، قال:
( اضربوه ) ، فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال:
( لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان) ". رواه
البخاري .
وفي
رواية أخرى: " ثم أمرهم فبكَّتوه فقالوا: ألا تستحي مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم تصنع هذا؟ ثم أرسله، فلما أدبر وقع القوم يدعون عليه ويسبونه،
يقول القائل: اللهم أخزه اللهم العنه، فقال رسول الله -صلى الله عليه و
سلم-:
(لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا: اللهم اغفر له اللهم ارحمه) " رواه
أبو داوود والبيهقي .
معاني المفردات قد شرب: أي شرب الخمر التي حرّمها الله.
أخزاك: دعاء بالخزي، وهو الذل والهوان.
لا تعينوا عليه الشيطان: أي بدعائكم عليه بالخزي فيتوهم أنه مستحق لذلك، فيغتنم الشيطان هذا ليوقع في نفسه الوساوس.
فبكَّتوه: التَّبكيت : التَّقْرِيع والتَّوبيخ.
تفاصيل الموقف "حرمت الخمر، ولم يكن للعرب عيش أعجب منها، وما حُرم عليهم شيء أشد من الخمر" هكذا يصف
أنس بن مالك رضي
الله عنه ولع العرب بشرب الخمر أيّام الجاهليّة وشدّة تعلّقهم بها، فقد
كان تعاطيها أكثر من مجرّد عادةٍ فرديّة، بل كانت ظاهرةً اجتماعيّة تربّى
عليها الصغير قبل الكبير، والفقير قبل صاحب المال الوفير، وعُقدت لها
المجالس، وصُرفت عليها النفقات، وأُنشدت فيها الأشعار، ويوضّح حقيقة ذلك
التعلّق المذموم قول أحدهم في جاهليّته:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنــني بالفــلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
ثم
جاء الإسلام بمنهجه العملي والواقعي لعلاج هذا الواقع المعقّد، فاستطاع
وبكلّ جدارة أن يقتلع جذور هذه الآفة من نفوس العرب، فلما أُعلن في المدينة
تحريم الخمر والتحذير من مقاربته –فضلاً عن مقارفته-، رأينا الامتثال
الفوري من الصحابة رضوان الله عليهم، وتروي كتب السيرة في هذا الصدد كيف
سالت أزقّة المدينة من الخمور التي أُريقت وتم التخلّص منها.
ثم
بقي بعد ذلك تفاوت الصحابة رضوان الله عليهم في قدرتهم على امتثال الأوامر
الإلهيّة، فأما عامّة الناس فقد امتنعوا عن شراب المسكرات وتجاوزوا هذه
المرحلة، وبقي منهم أفرادٌ قلائل لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة –فيما
نعلم من مرويّات السيرة- لم يقدروا على كسر دائرة الإدمان، فكانت تعتريهم
لحظات ضعفٍ بين الفينة والأخرى، كان منهم صاحب القصّة التي بين أيدينا.
وما
نحسب هذا الصحابي رضي الله عنه إلا رجلاً قد طرق من أبواب الخير ما نرجو
أن تكون شفيعاً له عند ربّه، إلا أن صراعه مع شهوة الخمر كان مريراً، فينجح
مرَّاتٍ في الابتعاد عنها، وأحياناً تغلبه نفسه وتضعف مقاومته، حتى إذا
انتهى من المعصية ساوره الندم وخالجته المرارة وعزم على عدم العودة، وأحدث
من الصالحات ما عسى أن يمحو سيّئاته.
وفي
إحدى "هفواته" ظهر للعيان كونه شارباً للخمر، واقعاً في الذنب، فاقتاده
الصحابة الكرام إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- مُتلبّساً بفعلته، فأصدر
النبي عليه الصلاة والسلام الأمر بمعاقبته وقال:
(اضربوه) .
ولكن
هل هو ضربٌ ينكأ جرحاً أو يكسر عظماً أو يُدمي جسداً؟ كلا، ذلك لأنه
تعبيرٌ عن الاستياء والاستنكار، ويُراد منه العلاجُ والتأديب والزجر لا
غير؛ ولذلك كان الضرب مرّة باليد، وأخرى بالنعال، وثالثة بالثوب، وما عسى
الثوب أن يضرّ؟
كان
المقصود إذن هو العقوبة التأديبيّة، سواءٌ منه ما كان بالضرب أو بالعتاب
و"التبكيت"، لكن بعض الصحابة رضوان الله عليهم تجاوز تلك اللفتة التربويّة
وزاد على المطلوب، وتعدّى بالسبّ والشتم المجرّد، بل والدعاء عليه بالخزي
والطرد من رحمة الله!!
كان
لابد من الحزم مع هذا التصرّف الذي دعت إليه الغيرة على حرمات الله مع عدم
إدراك عواقب الأمور ونتائجها، فنهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الدعاء
على أخيهم المذنب بقوله:
( لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان) .
إضاءات حول الموقف صدق الله القائل في كتابه:
{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء:107)،
فقد تجلّت في هذا الموقف النبوي الكريم مدى الشفقة البالغة التي طُبع
عليها خير الأنام عليه الصلاة والسلام تجاه فئة المذنبين، ومدى حرصه على
هدايتهم ورغبته في تطهيرهم من دنس الآثام والمعاصي، ثم محاولته إصلاحهم
وتنقية نفوسهم وتغيير دواخلهم لينالوا الجنّة التي وُعد المتقون، فصلوات
الله وسلامه عليه.
وفي معنى قول النبي –صلى الله عليه وسلم-:
( لا تعينوا عليه الشيطان) ذكر
العلماء عدّة معانٍ: منها أن الدعاء على العاصي بالخزي يوافق مقصود
الشيطان؛ فإنه بتزيينه للمعصية يريد أن يوقعه فيما يُخزيه في دنياه وآخرته،
وقالوا: إن الدعاء على المذنب بالخزي يعين استحواذ الشيطان عليه، لأنه إذا
سمع إخوانه يدعون عليه بمثل ذلك ازداد في عتوّه ونفوره، وأخذته العزّة
بالإثم، ولربما أيس من رحمة الله فانهمك في المعاصي والموبقات، ولذلك جاء
التوجيه النبوي بأن يقولوا:
(اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) .
ويقيم
الموقف النبوي منهجاً متوازناً في التعامل مع الأشخاص، فليس ثمّة حبٌّ
كاملٌ أو بغضٌ كامل، ولسنا أمام بياضٍ كامل أو سوادٍ حالكٍ لا يتخلّلهما
درجات، ولكن قد نُحبّ رجلاً من وجهٍ ونُبغضه من وجهٍ آخر، وحتى هذا البغض
لا يمنعنا من بخس الناس حقوقهم أو إهدار مكانتهم، من هنا نجد أن النبي –صلى
الله عليه وسلم وصف الرجل بأنه "أخٌ لهم على الرغم من شربه للخمر.