الأسرة والتحديات المعاصرة بحث مقدم إلى الاتحاد النسائي الإسلامي العالمي الخرطوم 13 -15 يوليو 2011
تعرضت الشعوب الإسلامية -خلال مسيرتها الطويلة- لغزوات متنوعة عسكرية، وسياسية، واقتصادية بذل فيها المستعمرون، ومن دار في فلكهم من المثقفين والحكام والمفكرين جهودًا جبارة لجعل الإسلام صورة باهتة في عقول المسلمين وإبعاده تمامًا كمنهج حياة، إلا أن هذه الشعوب امتلكت خاصية عجيبة وهي استعصائها على الغازي المستعمر أيًّا كان لونه أو جنسيته واستطاعتها الاحتفاظ بقيمها الأصيلة، صحيح أنه قد تأخذها سنة من النوم في بعض الأحيان إلا أنها ما تلبث أن تفيق وتسترد عافيتها شيئًا فشيئًا، وتفيء إلى حضارتها وأصالتها سالمة غانمة، بل في كثير من الأحيان هى التي تصبغ المستعمر بصبغتها فينتمى إلى دائرتها العربية الإسلامية طائعًا غيرمكره.
والسبب الرئيسي في هذا هو حصن الأسرة الذي كان –ولا يزال- قلعة الصمود أمام أي محاولة للتغريب بل ونقطة الانطلاق لإصلاح الكثير من دفاعات العالم الإسلامي التى تصدعت في أكثر من موقع.
وقد شهدت بهذا هيئة الأمم المتحدة في تقريرها الذي أصدرته عام 1975م بمناسبة العام العالمي للمرأة، حيث ذكرت: "إن الأسرة بمعناها الإنساني المتحضر، لم يعد لها وجود إلا في المجتمعات الإسلامية، رغم التخلف الذي تشهده هذه المجتمعات في شتى المجالات الأخرى".
لذا لم يُخفِ ممثل صندوق السكان في الأمم المتحدة UNFPA في هولندا "آري هوكمان" سعادته الشديدة بانهيار الأسرة على المستوى العالمي، حيث قال في ندوة عقدت مؤخرًا في المكسيك: "إن ارتفاع معدلات الطلاق، وكذا ارتفاع معدلات المواليد خارج نطاق الأسرة يُعدُّ نصرًا كبيرًا لحقوق الإنسان على البطرياركية"!!
الإ أنه للأسف في الآونة الأخيرة تعرضت الأسرة في مجتمعاتنا لحملات شعواء في مختلف بلادنا العربية والإسلامية وفي فترات زمنية متقاربة -وكأن هناك خيوط تحرك الدمى الموجودة في بلادنا من جمعيات أهلية ومجالس قومية و.. تنعق بمفردات القهر، والذكورية، وحقوق المرأة المهدورة، وسجن الأسرة الذي يلعب فيه الرجل دور الجلاد وتؤدي المرأة دور الضحية وغيرها من دعاوى شتى تتمركز غالبيتها حول المرأة؛ لإعطائها المزيد من الحريات. هذا في الوقت الذي لا تلقى فيه فئات أخرى في المجتمع وقضايا أكثر خطورة نفس الاهتمام، بما يكشف عن مشروع تغريب لا يخفى على كل ذي لب، تحت دعاوى متعددة وجدت لها رواجًا في زمن التراجع الحضاري للأمة الإسلامية وهيمنة الحضارة الغربية في عصرنا الحالى سُميت بالتحديث تارة، وبالاستجابة لمتغيرات العصر تارة أخرى، معبرة عن ملامح النظام العالمي الجديد الذي أشار إليه "فرنسيس فوكوياما" الياباني الأصل والأمريكي الجنسية أن على العالم أن يتقبل النظام الجديد بكل ما فيه من حرية، وأن الولايات المتحدة هي التي بدأت تسطر نهاية التاريخ بعد تبنيها للفكر المتحرر والديمقراطية والرأسمالية للعالم، وأن من رفض وأبى ظل وسيكون في نظر العالم هو الأكثر تخلفًا عن الدول التي تقبلت الوضع[1].
والذى تولى كبر تسويق قيم هذه الحضارة -خاصة في جانبها الاجتماعي والسلوكي- هيئة الأمم المتحدة، وبالتحديد لجنة مركز المرأة فيها، وذلك من خلال عقد المؤتمرات العالمية وما يعقبها من استصدار حزمة من المواثيق حيال العديد من القضايا الاجتماعية تحت مسميات عدة كالتنمية، والسكان والمرأة والطفل و.. أدت في مجملها إلى تصدير نمط حياة يحطم الحواجز الأخلاقية وينشر الإباحية ويعارض القيم الدينية إلى حد اعتبار أن مفهوم الأسرة الذي يشرعه الدين ليس إلا مفهوم عقيم، وقيد على الحريات الشخصية؛ لأنه لا يتقبل العلاقات الجنسية الحرة بين مختلف الأعمار، ويشترط أن تكون هذه العلاقات بين ذكر وأنثى وضمن الإطار الشرعي، واعتبروا أن الأسرة الطبيعية (التقليدية على حد تعبير الوثائق) هي التى تؤصل ما أطلقوا عليه (أدوار نمطية) للأبوة والأمومة..إلخ.
المشكلة البحثية:
البحث حول ما إذا كان هناك بالأساس اهتمام بالأسرة في المواثيق الدولية أم لا؟ وهل مفهوم الأسرة في هذه المواثيق هو ذاته في الفطرة الإنسانية والشريعة الإسلامية؟ وهل المفهوم الوارد في الاتفاقيات الدولية في صالح البشر رجالاً ونساءًا وأطفالاً؟ والحقوق الواردة بهذه الاتفاقيات هل تمثل حقوقًا فعلية لأفراد الأسرة أم أنها تؤدي إلى سلب لحقوقهم الحقيقية؟
أهمية البحث:
أنه رغم غرابة وشذوذ بعض القيم الغربية ذات الصلة بالأسرة -والتى يتم ترويجها في مجتمعاتنا- عن خصوصيتنا الحضارية الأصيلة إلا أنه مع الأسف وجدنا أناسًا من بنى جلدتنا يحاول بعضهم –عن حسن نية– المقاربة بين هذه القيم والقيم الإسلامية، وإلباس الوافد الغربي الثوب الإسلامى لتسهيل مرور هذه القيم والأفكار ونمط الحياة الذي سبق أن انبهروا به، في مجتمعاتنا الإسلامية بما هيأ السبل لاختراق حصن الأسرة المنيع.
وقد حداني هذا كباحثة من جهة، ومتغلغلة في نسيج العمل الأهلى وكواليس الأمم المتحدة من جهة أخرى، أن أعمل على توضيح بعض المفاهيم الأممية والمصطلحات الواردة في الوثائق الدولية بتعبيرها المطاط الفضفاض، وتوضيح دلالاتها سواء من خلال التعاريف الواردة في الموسوعات الغربية أو من خلال تحفظات الوفود الرسمية على بعض البنود لفهمها مغزاها الحقيقى ونظرًا لأن المجال لا يتسع لكافة المصطحات، لذا فإني سوف أركز على مفهوم الأسرة وبعض المفاهيم ذات الصلة.
منهج البحث:
سلكت في هذا البحث منهجًا تاريخيًّا في تتبع بعض الجهود الدولية المبذولة في هذا الميدان سواء في صورة مؤتمرات، أو اتفاقيات دولية، أو تقارير لجان خبراء؛ عسى أن أجد فيها مصطلح (الأسرة)، وكذلك استخدمت المنهج التحليلي النقدي في تحليل بعض وثائق المؤتمرات المعنية بالمرأة، وكذلك بعض الوثائق المعنية بالطفل، ونقدها في ضوء الشريعة الإسلامية.
فرضية البحث:
أن تناول الأسرة في المواثيق الدولية على النحو المذكور حاليًا سوف يؤدي إلى القضاء على الأسرة نهائيًّا من خلال مسارات ثلاث سارت فيها الوثائق الدولية على نحو متواز:
المسار الأول : اللعب بمصطلح الأسرة وتغيير المفهوم.
المسار الثاني : تفكيك الأسرة القائمة بالفعل.
المسار الثالث : صرف الشباب عن إنشاء الأسرة ابتداءً.
خطة البحث:
أولاً : التعرف على مفهوم الأسرة عبر بنود الاتفاقيات الدولية، والتعرف عليه في اللغة، وعلم الاجتماع، ثم مفهوم الأسرة من منظور الإسلام.
ثانيًا : رصد كيفية تفكيك الأسرة القائمة بالفعل عن طريق جملة من الإجراءات التي تجعل الحياة الزوجية جحيمًا لا يطاق بحزمة من القوانين التي تعاملت مع المرأة كوحدة لها استقلالها الكامل، والطفل كوحدة مستقلة أيضًا انطلاقًا من روح الندية والصراع في الأسرة ونزع قوامة الرجل على المرأة بدعوى (المساواة) والولاية على الأبناء بدعوى ( تمكين الطفل).
ثالثًا : رصد السبل التي تؤدي في مجملها إلى صرف الشباب عن إنشاء الأسرة ابتداءً بتضييق الحلال عليه كرفع سن الزواج وتجريم المأذون الذي يعقد العقد الشرعي، وكذلك وضع شروط في عقد الزواج بما يجعله أقرب إلى العقد المدني، وإباحة العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، واقتسام الممتلكات بعد الطلاق مع حرمانه من حق إنهاء الطلاق بإرادته المنفردة، وإذا ما عنَّ له التعدد فهذا أيضًا مرفوض...إلى غير ذلك من الإجراءات التى تجعل الزواج بالنسبة للشاب أقرب إلى الفخ منه إلى عش الزوجية السعيد.
الفصل الأول: تغيير مفهوم الأسرة-اللعب بمصطلح الأسرة الفصل الثانى: تفكيك الأسرة القائمة بالفعلالفصل الثالث : صرف الشباب عن انشاء الإسرة ابتداءًالخاتمة