حجة الوداع.. دروس وعبر
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا﴾
(المائدة: من الآية 3)..
لما نزلت هذه الآية بكى الصحابة وبكى عمر بن الخطاب- رضي الله عنهم- وكأنهم فهموا منها الإشارة إلى قرب أجل الرسول- صلى الله عليه وسلم-، ولما قيل لسيدنا عمر: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان.
ولقد أنعم الله على الأمة الإسلامية بأن جعلها خير أمة أخرجت للناس؛ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدعو إلى الخير والسلام لكل أجناس البشر، ولقد تفضَّل الله على سائر البشر بأن أرسل رسلاً مبشِّرين ومنذرين إلى قومهم، وختم كل هذه الرسالات بأن أرسل إلى الإنسانية خير رسول وخير خلقه؛ محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفه عز وجل بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4).
ولقد عُرف محمد صلى الله عليه وسلم بأداء الأمانات والصدق في القول والعمل ومكارم الأخلاق والعديد من المآثر التي كان بها خير قدوة وأسوة
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾
(الأحزاب: من الآية 21).
فلما شعر- صلى الله عليه وسلم- بدنوِّ أجله أخذ يُكمل رسالته بالتبليغ
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾
(سورة المائدة: من الآية 67)
فتمثَّلت حجة الوداع بالشمولية والإلمام لمعالم وأصول الدين الحنيف.
ففي يوم السبت لأربعٍ بقين من ذي القعدة في السنة العاشرة من الهجرة تهيَّأ النبي صلى الله عليه وسلم للحج مقرنًا- الجمع بين الحج والعمرة- وانطلق محرمًا من ميقات أهل المدينة (ذي الحليفة)، فوصل صلى الله عليه وسلم إليه قبل صلاة العصر، فصلاَّها ركعتين، وبات هناك حتى أصبح، ولمَّا أصبح قال لأصحابه:
"أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة"
أي أمره أن ينويَ الحج والعمرة معًا.
ولقد كانت هذه الحجة هي الحجة الوحيدة التي أدَّاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد البعثة، ولمَّا تسامع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيحج في تلك السنة، توافدوا إلى الحج من مختلف أنحاء الجزيرة العربية حتى بلغوا مائة وأربعة عشر ألفًا.
ولحجة الرسول- صلى الله عليه وسلم- معانٍ جليلة تتعلَّق بالدعوة الإسلامية؛ فلقد تعلَّم الناس من رسول صلى الله عليه وسلم صلاتهم وصيامهم وأمور حياتهم، وما يتعلق بهم من عبادات وواجبات، وبقي أن يعلمهم مناسكهم وكيفية الأداء لشعيرة الحج.
والدعوة إلى حج بيت الله الحرام ستظل قائمةً إلى يوم القيامة؛ فهي دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام بأمرٍ من ربه سبحانه وتعالى، ولكن الخرافات الجاهلية وضلالات الوثنية قد زادت فيه تقاليد باطلة وصبغته بكثيرٍ من مظاهر الكفر والشرك، وقد جاء الإسلام ليغسل هذه الشعيرة مما قد علق بها من أدران، ويُعيدها نقيةً صافيةً تشعُّ بنور التوحيد وتقوم على أساس العبودية المطلقة لله تعالى، وقد أُلقي في روعه أن مهمته في الأرض توشك أن تنتهيَ، ولمَّا شاع خبر حج النبي صلى الله عليه وسلم اشتاقت القلوب للقائه؛ فهي فرصة اللقاء في الحج لبيت الله المعمور.. إنه لقاء توصية ووداع.
"وإن أول ما يلفت النظر في حجة الوداع هذا الجمهور الضخم الذين حضروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم من مختلف أنحاء الجزيرة العربية، مؤمنين به، مصدِّقين برسالته، مطيعين لأمره، وقد كانوا جميعًا قبل ثلاثة وعشرين سنة فحسب على الوثنية والشرك، ينكرون مبادئ رسالته، ويُعجَبون من دعوته إلى التوحيد، وينفرون من تنديده بآبائهم الوثنيين، وتسفيهه لأحلامهم، بل كان كثير منهم قد ناصبوه العداء، وتربَّصوا به الشر، وبيَّتوا على قتله، وألَّبوا عليه الجموع، وجالدوه بالسيوف والرماح، فكيف تم هذا الانقلاب العجيب في مثل هذه المدة القصيرة؟! وكيف استطاع صلى الله عليه وسلم أن يحوِّل هذه الجموع من وثنيتها وجاهليتها وترديها وتفرقها إلى توحيد الله وعلم ذاته وصفاته واجتماع الكلمة ووحدة الهدف والغاية؟! وكيف كسب حب هذه القلوب بعد عداوتها وهي المعروفة بشدة الشكيمة وعنف الخصام؟!
ألا أن إنسانًا- مهما بلغت عبقريته ودهاؤه وقوة شخصيته- ليستحيل أن يصل إلى هذا في مئات السنين، وما سمعنا بهذا في الأولين والآخرين، إن هو إلا صدق الرسالة، وتأييد السماء، ونصرة الله، ومعجزة الدين الشامل الكامل الذي أتمَّ الله به نعمته على عباده ، وختم به رسالاته للناس، وأراد أن يُنهيَ به شقاء أمةٍ كانت تائهةً في دروب الحياة، مستذلةً للأهواء العصبيات، وأن يدلها على طريق الهداية، ويقلدها قيادة الأمم، ويحوُّل بها مجرى التاريخ، ويمحو بها مهانة الإنسان، ويورثها الحكمة والكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب.
مائة وأربعة عشر ألفًا كانوا له مكذِّبين، فأصبحوا له مصدِّقين، وكانوا له محاربين فأصبحوا له مذعنين، وكانوا له مبغضين فأصبحوا له محبين، وكانوا عليه متمرِّدين فأصبحوا له طائعين.. كل ذلك في ثلاث وعشرين من السنين؛ ذلك هو صنع الله الحق المبين، فتعالى الله عما يشركون، وتنزهت ذات رسوله عما يقول الملحدون.
وما يلفت النظر في حجة الوداع هذا الخطاب القوي الحكيم الذي خاطب به رسول الله الناس أجمعين، وتلك المبادئ التي أعلنها بعد إتمام رسالته ونجاح قيادته، مؤكدةً المبادئ التي أعلنها في أول دعوته، يوم كان وحيدًا مضطهدًا، ويوم كان قليلاً مستضعفًا، مبادئ ثابتة لم تتغير في القلة والكثرة، والحرب والسلم، والهزيمة والنصر، وإعراض الدنيا وإقبالها، وقوة الأعداء وضعفهم، بينما عرفنا في زعماء الدنيا تقلبًا في العقيدة والمبدأ، وتباينًا في الضعف والقوة، وتغيرًا في الوسائل والأهداف؛ يُظهرون خلاف ما يُبطنون، ويُنادون بغير ما يعتقدون، ويلبسون في الضعف لبوس الرهبان، وفي القوة جلود الذئاب، وما ذلك إلا لأن هؤلاء رسل المصلحة، وأولئك رسل الله، وشتان بين من يحوم فوق الجيف ومن يسبح في بحار النور!.. شتان بين الذين يعملون لأنفسهم والذين يعملون لإنسانيتهم!.. شتان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن
﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
(البقرة: 257)
(د. مصطفي السباعي- السيرة النبوية).
يوم عرفة.. حجة الإسلام
عُرفت هذه الحجة بحجة البلاغ، وحجة الإسلام، وحجة الوداع؛ لأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ودَّع الناس فيها ولم يحج بعدها، وحجة البلاغ لأنه صلى الله عليه وسلم بلَّغ الناس شرع الله في الحج قولاً وعملاً، ولم يكن بقي من دعائم الإسلام وقواعده شيء إلا وقد بيَّنه قال صلى الله عليه وسلم في خطبته:
"أيها الناس.. اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا".
ولقد وضَّح الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في خطبته الأسس التي تكفل قيام مجتمع إسلامي يسوده الحب والوئام والأخوة والصفاء، فقال:
"اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمنَّ أن كل مسلم أخ لمسلم وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه إياه عن طيب نفس فلا تظلمنَّ أنفسكم، واعلموا أن القلوب لا تُغَل على ثلاث: إخلاص العمل لله عز وجل، ومناصحة أولي الأمر، وعلى لزوم جماعة المسلمين".
ولعل تأخير حجة الوداع إلى العام العاشر حتى يدور الزمن دورته وتستقر الأيام والشهور في توقيتها قال تعالى:
﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (التوبة: 37)، فشاءت إرادة الله أن تكون حجة رسول الله وفق ما دار الزمن دورته لتعود الأيام والشهور على ما خلقها الله وتكون هذه الأيام أداء للمناسك والتي قال الله تعالى عنها ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾
(البقرة: من الآية 197)،
﴿وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾
(البقرة: من الآية 203).
ولقد نالت التوجيهات الاجتماعية النصيب الأوفر من وصاياه صلى الله عليه وسلم، وأرسى الدعائم وأنزل المرأة منزلتها وأعلى مكانتها، وأرسى الدعائم التي تكفل حقوقها، فقال صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس.. استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنهن عوان عندكم؛ لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله".
المساواة بين البشر
أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبادئ المساواة ووحدة المنشأ والأصل؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم:
"لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض، إلا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب"؛
حيث حدَّد أن أساس التفاضل لا عبرة فيه لجنس، ولا لون، ولا وطن، ولا قومية، وإنما أساس التفاضل قيمة خلقية راقية ترفع مكانة الإنسان إلى مقامات رفيعة جدًّا.
من أُسس وبنود خطبة حجة الوداع
وتُعَد خطبة حجة الوداع دستورًا للأمة الإسلامية ومنهجًا للبشرية جمعاء؛ فلقد أتم الله رسالته إلى البشرية على يد أشرف وأكرم رسول بعث إلى الإنسانية، ووضع الدعائم لقيام الدولة الإسلامية ولاستخلاف الأمة الإسلامية والتمكين لدين الله الحنيف في الأرض إلى يوم البعث والنشور.
ومن هذه الأسس والبنود:
- حرمة الدم والمال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فإن دماءكم وأموالكم- وفي رواية أعراضكم- عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟"
قالوا: نعم، قال:
"اللهم اشهد، فليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ؛ فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا؛ يضرب بعضكم رقاب بعض".
الأساس الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم
"ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث- كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل- وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب؛ فإنه موضوع كله".
أي إن كل أمر من أمر الجاهلية موضوع؛ فما التفاخر بالإنسانية والأعراق إلا جاهلية موضوعة، والاستبعاد الذي ينشأ من المقاضاة الربوية أيضًا موضوع؛ فهذه الأرجاس التي هي من تقاليد بل من عادات ومعالم المجتمع الجاهلي القديم اجتثَّها صلى الله عليه وسلم من أصولها، وأبعدها من منطلق الإنسانية وتقدمها الفكري والحضاري، وأعلنها صريحةً بأنها حثالة مدفونة تحت قدميه، ولقد بدأ بنفسه فوضع دم ابن ربيعة بن الحارث ووضع ربا العباس بن عبد المطلب.
- اتقوا الله في النساء:
أوصى صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرًا؛ فقال صلى الله عليه وسلم:
"اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه؛ فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرِّح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون"
قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأدَّيت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكثها إلى الناس: "اللهم اشهد.. اللهم اشهد"
ثلاث مرات.
- والوقوف بجانب الضعيف
حتى لا يكون هذا الضعف ثغرةً في البناء الاجتماعي، فأوصى صلى الله عليه وسلم في خطبته بالمرأة والرقيق على أنهما نموذجان عن الضعفاء؛ فقد شدد صلى الله عليه وسلم في وصيته على الإحسان إلى الضعفاء، وأكد في كلمة مختصرةٍ جامعةٍ القضاء على الظلم البائد للمرأة في الجاهلية، وتثبيت ضمانات حقوقها وكرامتها الإنسانية التي تضمنتها أحكام الشريعة الإسلامية.
- الاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله:
قوله صلى الله عليه وسلم:
"أما بعد.. ألا أيها الناس.. فإنما أنا بشر؛ يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله؛ فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به"،
فحث على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال:
"وأهل بيتي؛ أذكِّركم الله في أهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي.. أذكِّركم الله في أهل بيتي"
دعوة إلى الاحتكام بكتاب الله وسنة رسوله في كل ما يستجد من أمور الدنيا ومتطلباتها.
وقد حدَّد صلى الله عليه وسلم مصدر التلقي والطريقة المثلى لحل مشاكل المسلمين التي قد تعترض طريقهم في الرجوع إلى مصدرين لا ثالث لهما، وهما: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنك لتجده يتقدَّم بهذا التعهد والضمان إلى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده، ليبيِّن للناس أن صلاحية التمسك بهذين الدليلين ليست وقفًا على عصر دون آخر.
- علاقة الحاكم بالمحكوم:
وضَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم علاقة الحاكم بالمحكوم: التعاون مع الدولة الإسلامية على تطبيق أحكام الإسلام، والالتزام بشرع الله، ولو كان الحاكم عبدًا حبشيًّا؛ فإن في ذلك الصلاح والفلاح، والنجاة في الدنيا والآخرة، وإنها تعتمد على السمع والطاعة ما دام الرئيس يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا مال عنهما فلا سمع ولا طاعة؛ فالحاكم أمين من قِبل المسلمين على تنفيذ حكم الله تعالى.
وبيَّن صلى الله عليه وسلم أنه لا امتياز للحاكم على المحكوم في شيء؛ إذ هو في الحقيقة لا يتمتع بأية حاكمية حقيقية، بل هو أمين من قِبل المسلمين على تنفيذ حكم الله بما أنزل.
وذكر أبو الحسن الندوي:
"لما فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من صلاته والتضرع والابتهال إلى غروب الشمس، وكان في دعائه رافعًا يديه إلى صدره، كاستطعام المسكين، يقول فيه:
"اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، والوجل المشفق المقر المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، مَن خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذلَّ جسده، ورغم أنفه لك، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيًّا، وكن بي رءوفًا رحيمًا، يا خير المسئولين ويا خير المعطين".
لا حرج.. لا حرج
ومن الدروس والعبر تربية المجتمع على منهج التيسير: لا حرج.. لا حرج: قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، فطفق ناس يسألونه فيقول القائل: يا رسول الله.. إني لم أكن أشعر أن الرمي قبل النحر، فنحرت قبل الرمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فَارْمِ ولا حرج"
قال: وطفق آخر يقول: إني لم أشعر أن النحر قبل الحلق، فحلقت قبل أن أنحر، فيقول:
"انحر ولا حرج"
، قال: فما سمعته يُسأل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء ويجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها، إلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"افعل ولا حرج".
أعمار قد تنقضي، ولكن شتان بين مَن يُقدِّم لآخرته ودار قراره ومن يعمل لدنياه فقط!.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم أمضى زهرة عمره في الدعوة إلى الله مجاهدًا مرابطًا داعيًا، معلمًا وزوجًا صالحًا، وصاحبًا وصديقًا، ومبشرًا وميسرًا، ومبتليًا وصابرًا، أمضى حياته لله، فكان لله، ومع الله، وفي الله.. نشر شرعة ربه، فما أسعدها من لحظات!، لحظات الختام والتمام والكمال؛ تهون عندها الآلام والابتلاءات.
لكنها في الحقيقة منحة من الله لخير خلقه وصفوة الخلق من الدعاة إلى الله ليشرِّفهم بشرف الدعوة إليه.
فلقد أدَّى النبي حجه، وعلم الناس تمام الدين، ثم عاد إلى المدينة ليكمل سيرته في الدعوة والجهاد في سبيل مرضاة الله.