الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله، أما بعد:
فيستفاد من الحج دروس عظيمة تعود آثارها علي الفرد والأمة، وإليك أيها القارئ الكريم عرضاً مجملاً لبعض تلك الدروس خلال الأسطر التالية:
1- حصول التقوى:
والتقوى غاية الأمر، وجماع الخير، ووصية الله للأولين والآخرين، والحج فرصة عظمى للتزود من التقوى، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [ البقرة: 197].
وقال عز وجل: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج:37 ].
وقال تبارك وتعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [ الحج: 32].
فأولو الألباب الذين خصهم الله بالنداء لتقواه يأخذون من الحج عبرة للتزود من التقوى، فينظرون إلي أصل التشريع الإلهي، ومكانته المهمة في الدين، ويعلمون أن صدق المحبة والعبودية لله لا يكون إلاّ بتقديم مراد الله على كل مراد.
فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام ابتلاه الله عز وجل بذبح ابنه الوحيد إسماعيل، الذي ليس له سواه، والذي رزقه الله إياه عند كبر سنه؛ والذي هو أحب محبوب من محبوبات الدنيا.
وهذا الأمر من أعظم البلاء، وبه يتحقق الإيمان، وتظهر حقيقة الامتحان؛ فالخليل أعطى المسلمين درساً عظيماً للصدق مع الله، وذلك بتقديم مراد الله على مراد النفس مهما غلا وعظم؛ فإنه عليه السلام بادر إلي التنفيذ مع شدة عاطفته، وعظيم رحمته ورقته وشفقته فأفلح، وأنجح، وتجاوز هذا البلاء، فرحمه الله، وشل حركة السكين عن حلق ابنه، بعد أن أهوى بها الخليل؛ ففداه الله بذبح عظيم، وجعلها سنة مؤكدة باقية في المسلمين إلي يوم القيامة؛ ليعاملوا الله عز وجل معاملة المحب لحبيبه ومعبوده، فيضحوا بمرادات نفوسهم، ومحبوباتها في سبيل مراد الله ومحبوبه.
فإذا عرف الحجاج هذا المعنى، وأدركوا هذا السر العظيم الذي لأجله شرعت الهدي والأضاحي عادوا يحملون تلك المعاني العظيمة، التي تجعلهم لا يتوانون عن تنفيذ شيء من أوامر الله، فلا تمنعهم لذة النوم وشهوة الفراش عن المبادرة إلى القيام إلى صلاة الفجر.
ولا يمنعهم حب المال، والحرص على جمعه من ترك الغش، والغبن، والربا، والتطفيف، وإنفاق السلع بالأيمان الكاذبة.
ولا يمنعهم حب الشهوات والميل إلي النساء، والطمع في نيل اللذة المحرمة من غض البصر، ولزوم العفة، وحفظ الفروج؛ إثاراً لما يحبه الله على ما تحبه نفوسهم، وتنزع إليهم طبائعهم، ورغبة في نيل رضا الله وعِوَضه في الدنيا والآخرة.
ولا يمنعهم حب الدنيا عن الإنفاق في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
وعلى هذه النبذة اليسيرة من أعمال الحج فقس.
وهكذا يستفيد أولو الألباب من هذا الدرس العظيم من الحج ما يتزودون به على التقوى.
2- اعتياد الذكر:
فالذكر مقصود العبادات الأعظم، والذكر يتجلى غاية التجلي في الحج؛ فما شرع الطواف بالبيت، ولا السعي بين الصفا والمروة، ولا رمي الجمار إلاّ لإقامة ذكر الله كما قال عليه الصلاة والسلام.
فإذا أكثر الحاج من الذكر في تلك المواضع أنس بالذكر، واطمأنت نفسه به، وزاد قرباً من ربه، وكان ذلك داعياً لاعتياد الذكر، والإكثار منه بعد الحج.
3- اعتياد الدعاء:
فرحلة الحج من أولها إلى آخرها فرصة للدعاء، والابتهال إلى الله عز وجل إذ يجتمع للحاج من دواعي الإجابة مالا يجتمع لغيره من شرف الزمان، والمكان، ولحال الداعي وتلبّسه بتلك الشعيرة العظيمة، ولكثرة المواضع التي يشرع فيها الدعاء، وترجي الإجابة؛ فالطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، وعند المشعر الحرام، وبعد رمي الجمرة الصغرى، وبعد رمي الجمرة الوسطى كل هذه المواضع مواضع دعاء، ومظان للإجابة. وهذا يبعث المؤمن إلى كثرة الدعاء، وإلى اعتياده في سائر أيامه المستقبلة.
4- التعود علي انتظار الفرج:
فإذا رأى الحاج جموع الحجيج المزدحمة عند الطواف، والسعي، وفي رمي الجمرات ظن أن تلك الجموع لن تتفرق، وأنه لن يصل إلى مبتغاه من إكمال الطواف، أو السعي، أو رمي الجمار، وربما أدركه الضجر، وبلغت به السآمة مبلغها، وربما أضمر في نفسه أنه لن يحج بعد عامه هذا.
وما هي إلا مدة يسيرة، ثم تَنفَلُّ الجموع، ويتيسر أداء المناسك.
وهذا درسُُ عظيم، وسرُ بديع يتعلم منه الحاج عبودية انتظار الفرج، وهي من أجل العبوديات، وأفضل القربات؛ فلا ييأس بعد ذلك من روح الله، وقرب فرجه مهما احلولكت الظلمة، ومهما استبد الألم، ومهما عظم المصاب سواء في حاله أو في حال أمته، بل يكون محسناً ظنه بربه، منتظراً فرجه ولطفه، وقرب غِيَرِهِ عز وجل فيجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه، وراحته ماهو من خفي الألطاف، وما هو فرج مُعَجَّل.
ولا بعد في خير وفي الله مطمع *** ولا يأس من روح وفي القلب إيمان
5- اكتساب الأخلاق الجميلة:
فالحج ميدان فسيح لمن أراد ذلك؛ فالحاج يتدرب عملياً على الحلم، والصبر، والمداراة، وكظم الغيظ من جراء ما يلقى من الزحام، والتعب، والنصب سواء في الطريق إلى الحج، أو في الطواف، أو في السعي، أو في رمي الجمار، أو في غيرها من المناسك؛ فيتحمل الحاج ما يلقاه من ذلك؛ لعلمه بأن الحج أيام معدودة، ولخوفه من فساد حجه إذا هو أطلق لنفسه نوازع الشر، وإدراكه بأن الحجاج ضيوف الرحمن؛ فإكرامهم، والصبر على ما يصدر من بعضهم دليل على إجلال الله عز وجل.
فإذا تحمل الحاج تلك المشاق في أيام الحج صار ذلك دافعاً لأن يتخلق بالأخلاق الجميلة بقية عمره.
ثم إن الحاج يتعلم الكرم، والبذل، والإيثار، والبر، والرحمة، وذلك من خلال ما يراه من المواقف النبيلة الرائعة التي تجسد هذه المعاني؛ فهذا سخي يجود بالإنفاق على المساكين، وذاك كريم بخلقه يعفو عمن أساء إليه، وأخطأ في حقه، وذاك رحيم يعطف على المساكين ويتلطف بهم، وذاك حليم يصبر على ما يلقاه من أذى، وذاك بر بوالده يحمله على عاتقه، وذاك يحوط أمه العجوز بلطفه ورعايته.
بل ويكتسب الأخلاق الجميلة إذا رأى من لا يدركون معنى الحج، ممن يغضبون لأدنى سبب، وتطيش أحلامهم عند أتفه الأمور. فإذا رأى العاقل البصير سوء فعال هؤلاء انبعث إلى ترك الغضب، وتجافى عن مرذول الأخلاق.
6- تحقق الأخوة الإسلامية:
فالقبلة واحدة، والرب واحد، والمشاعر واحدة، واللباس واحد، والمناسك واحدة، والزمان واحد، فكل هذه الأمور تجتمع في الحج، وهي مدعاة للإحساس بوحدة الشعور، وموجبة للتآخي، والتعارف، والتعاون على مصالح الدين والدنيا.
7- قيام عبودية المراقبة:
فالحاج يطوف بالبيت العتيق سبعاً، ويسعى بين الصفا والمروة سبعاً، ويرمي الجمار سبعاً، ويقف في عرفة في وقت محدد، وينصرف منها في وقت محدد، ويبيت في المزدلفة في وقت محدد، وهكذا.
فلا تراه يزيد في الجمار أو ينقص، ولا تراه يفعل عملاً من أعمال الحج في غير وقته، ولا تراه يأتي محظوراً من محظورات الإحرام عالماً عامداً.
لماذا؟ لأنّه يخشى من فساد حجه، ولأنّه يعلم بأنّ الله مطلع عليه.
وهذا درس عظيم يبعث المسلم إلى مراقبة الله عز وجل في شتى شؤونه وأعماله؛ فالمطلع على أعمال الحج مطلع على غيرها من الأعمال.
8- التعود علي اغتنام الأوقات:
فالوقت رأس مال الإنسان، والوقت أجل ما يصان عن الإضاعة والإهمال.
وفي الحج يقوم الحاج بأعمال عظيمة، وفي أماكن مختلفة متباعدة مزدحمة، وفي أيام محدودة قد لا تتجاوز أربعة أيام.
وفي هذا دليل على أن في الإنسان طاقة هائلة مخزونة، لو استثارها لآتت أكلها ضعفين أو أكثر.
وهذا درس عظيم يبعث المسلم إلى أن يعتاد اغتنام الأوقات، وأن يحرص على ألاّ يضيع منها شيء في غير فائدة.
9- انبعاث عبودية الشكر:
فالحاج يرى المرضى، والمعاقين، والعميان، ومقطعي الأطراف، وهو يتقلب في أثواب الصحة والعافية؛ فينبعث بذلك إلى شكر الله عز وجل على نعمة العافية.
ويرى ازدحام الحجيج، وافتراشهم الأرض، وربما لا يستطيع الحاج أن يرى مكاناً يجلس فيه، فيتذكر نعمة المساكن الفسيحة التي يسكن فيها، فينبعث إلى شكر الله على ذلك.
ويرى الفقراء والمعوزين الذين لا يجدون ما يسدون به ومقهم، فينبعث إلى شكر الله على نعمة المال والغنى.
ويرى نعمة ربه عليه أن يسر له الحج، الذي تتشوق إليه نفوس الكثيرين من المسلمين ولكنهم لا يستطيعون إليه سبيلاً؛ فيشكر الله عز وجل أن يسر له الحج وأعانه على أداء مناسكه.
بل ويرى نعمة ربه عليه أن جعله من المسلمين، فينبعث إلى شكر نعمة الإسلام، ويعض عليها بالنواجذ، ويثني بالخناصر؛ لأنّ نعمة الإسلام لا تعادلها نعمة البتة.
وهكذا تقوم عبودية الشكر في الحج، فيكون الحاج من الشاكرين، وإذا كان كذلك درت نعَمُهُ وقرت؛ فالشكر قيد النعم الموجودة وصيد النعم المفقودة.
10- تذكُّر الآخرة:
فإذا رأى الحاج ازدحام الناس، ورأى بعضهم يموج في بعض، وهو في صعيد واحد، وبلباس واحد، وقد حسروا عن رؤوسهم، وتجردوا من ثيابهم، ولبسوا الأردية والأرز، وتجردوا من ملذات الدنيا، ومتعها تذكر يوم حشره على ربه؛ فيبعثه ذلك إلى الاستعداد للآخرة، ويقوده إلى استصغار متاع الحياة الدنيا، ويرفعه عن الاستغراق فيها، ويكبر بِهِمَّته عن جعلها قبلة يولي وجهه شطرها حيثما كان.
11- اعتياد مراغمة الشيطان:
فالشيطان عدو للإنسان مبين، ولقد حذرنا الله تبارك وتعالى من الشيطان، وأمرنا أن نتخذه عدواً، وبألا نتبع خطواته. فمراغمة الشيطان مرضاة للرب جل وعلا.
وهذا الأمر يتجلى في الحج، وأعظم ما يتجلى في رمي الجمار؛ فالحجاج لا يرمون الشيطان، وليس الشيطان بواقف لهم يرجمونه.
وإنما يرجمون المواقف التي وقف فيها الشيطان لأبيهم إبراهيم، فرجمه الخليل عليه السلام فهم يرجمونه لا لمجرد التكرار، وإنما للانتفاع والاعتبار؛ فعليهم أن يتأملوا كيف عرف أبوهم إبراهيم أن الذي وقف له ليصده عن تنفيذ أمر ربه أنه الشيطان؛ حيث تمثل له ثلاث مرات؛ ليثنيه عن ذبح ابنه، فرجمه إبراهيم ثلاث مرات كل مرة بسبع حصيات، وقال له: ليس لك عندي إلاّ الرجم، فخنس وخسأ، وخاب ظنه، ونكص على عقبيه.
فأولو الألباب يعتبرون بهذا الرجم، ويأخذون منه دروساً وعبراً؛ إذ يعاملون كل شيطان من شياطين الجن والإنس ممن يريدون صرفهم عن طاعة ربهم بالرجم المعنوي الذي هو بغض من صد عن سبيل الله، زعصيانه، ومراغمته، والابتعاد عنه، والاستعاذة بالله منه.
فيعرفون أن كل من حاول صدهم عن طاعة ربهم، أو فتنتهم في دينهم أنه شيطان مهما لبس من لبوس، ومهما أظهر من مودة وتصنع.
أيها الأخ الكريم!
ما أكثر دروس الحج، وما أعظم بركاته؛ فليكن لك من ذلك أوفر الحظ والنصيب؛ لتفوز بسعادة الدارين، ولتكون من حزب الله المفلحين، ومن أوليائه المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وآله وصحبه.