كلما نظرت" فتون" الى المرآة تترآى لها صورة سيدة جميلة جدا بنضارة بشرتها الفاتحة و سواد شعرها الناعم و ملامحها الفاتنة و قدها الأخاذ ،فمن ذا الذي يستطيع مقاومة جاذبيتها؟ لا أحد... لكن سرعان ما تتحول ابتسامتها المغرورة الى حزن و انكسار حين تتذكر أنها تزوجت من" بدر " الشاب البسيط الضيق الافق المنعدم الطموح رغم أنها لا تنكر عليه طيبته و حسن خلقه و حبه المتفاني لها.
تمرر فتون بعض الكريمات على بشرتها قبل النوم كي تحافظ على ثروتها الكبيرة فجمالها يضعف كل من تصادفه و قد تفكر في استبدال هذا الرجل البليد بغيره ان هو لم يدرك ما تريده منه و يستجب له قبل نفاذ صبرها.
تريد فتون بيتا خاصا بها بدل العيش في كنف اسرة زوجها الكبيرة العدد،كما تريد سيارة جميلة و فساتين أجمل ،تريد أن تقضي أوقاتا سعيدة مع زوجها فحسب في سياحة كل شهر ،تريد الاكل في افخم المطاعم تريد أن تنسلخ من هذه الطبقة التي اعتادتها و تنسجم مع أخرى أرقى و أغنى...تريد كل ما يمكنها نواله من هذه الحياة لكنها تشعر أنها لن تتجاوز كونها مجرد احلام .
تستلقي على فراشها بجانب بدر و هو يغط في نوم عميق و يصدر شخيرا مزعجا يثير اشمئزازها ، تنظر الي مليا وحاجباها مقطبتان و تفكر كم من فرص الزواج ضيعت من أجل الارتباط به و قد كانت تظنه سيسعدها لآخر عمرها بعد أن غرها بيت أبيه و منصبه و ها هو الان أحيل على التقاعد و لم يعد يكفي معاشه حتى لسد مستحقات الكهرباء و الغاز و ها هو زوجها مجبر على اعانته بجزء من راتبه فلا يبقى منه شيء يكفي لشراء هدية بسيطة لها .
تشعر فتون بضيق شديد من كل من حولها :أمه ،أبوه ، أخواته ،حتى الصغرى التي لم تبلغ العاشرة و تريد ان تطير بعيدا معه عن هذا المكان الذي خنقها و يمنعها الحياة ككل النساء من حولها .
يوم أمس صادفت فتاة كانت تدرس معها أيام الثانوية،كانت تقود سيارة جميلة ،بينما فتون تنتظر مرور الحافلة لتقلها مع عشرات المعدمين أمثالها فاذا بها تسمع بوق السيارة يتردد عليها فتفتح نافذتها لتخرج منها يد سيدة مزينة بحلي ذهبية جميلة و أضافرها ملمعة باحمر الاضافرالذي يكاد لونه صرخ صراخا ،ثم سمعت صوت السيدة ينادي اسمها . أقبلت فتون على صاحبة السيارة لترى من فيها و اذا بها صديقتها زهور و قد كانت تبدو بأحسن حال و أجمل حلة .
تبادلت السيدتان التحية و امتطت فتون السيارة بتردد و قلبها يعتصر على ما آلت اليه مقارنة بصديقتها التي كانت يوما ما تلميذة ضعيفة و تترجى فتون لتساعدها على شرح ما يدرسه الاستاذ و لولاها ما كانت انتقلت يوما الى الجامعة و لم يكن جهد فتون مجانيا فمن الذي صار يعمل بالمجان في هذا الوقت ؟ثم انها ان لم تساعد نفسها بالقاء بعض الدروس لزهور و امثالها ما كانت استطاعت ان تتم دروسها و قد توفي ابوها و تزوجت أمها من بعده و تخلت عنها من اجل ارضاء هذا الذي كادت بصيرته تزيغ و حاول أن يستدرج فتون فلجأت الى أمها التي فضلت طردها من البيت على ان تحميها .
هكذا وجدت فتون نفسها في الشارع كأي متشرد لا اهل له ثم تذكرت أن لها عمة طاعنة في السن فسافرت اليها و مكثت عندها لما تبقى من أيام عمرها .
رغم أن هذه العمة كانت سيدة غنية لكنها كانت من أبخل الناس و لم تكن تطعم فتون حتى تجبرها على تنظيف البيت كأي خادمة مأجورة غير ان أجرتها كانت لقمة و فرشة ...حتى تكاليف الدراسة كان علي فتون تدبرها بمفردها .
عادت فتون يوما من الثانوية لتجد بيت العمة حال كله الى رماد و قضت هي فيه حرقا .
مكثت فتون هنا و هناك عند هذه الصديقة و تلك حتى بلغت الجامعة و استقرت في الحي الجامعي لحين وفرت مبلغا من العمل في الفنادق و المقاهي الليلية بينما كانت تدرس بالنهار و ما ان اتمت سنوات الجامعة بامتياز حتى اشترت شقة صغيرة و تدبرت مع بعض الوقت عملا مناسبا جدا و تحسن حالها بشكل باهر .
التقت بدرا في ذات الشركة التي كانت تعمل بها و كان يحدثها عن أهله و بيته الفاخر المحاذي لجنب البحر حيث يشم نسائمه من خلال نافذة غرفة نومه و كانت فتون تحلم بدفء أسرة تحتويها و زوج طيب يصونها و يحقق لها كل أمانيها .
توطدت علاقة الشابين و قررا الزواج و كان كل شيء يبدو رائعا و كانت ستستقيل من عملها لتوفر نفسها كاملة له ....ثم انقلب الحلم الى كابوس حين صارت بينهم يريدونها ان تشاركهم الطبخ و الكنس و الغسيل و كانت قد كرهت كل هذا مما قاسته من قبل عمتها و كرهت مشاركتهم بدرا معها و كرهت عدم استقرارها و خوفها من الفقر .
قررت فتون جمع اغراضها و التخلي عن بدر و عن كل شيء و البحث عن السعادة في مكان آخر .
بحثت عن منصب شغل جديد و حصلت عليه بفضل عواملها الخارقة :جمالها ، ثقتها بنفسها و شهادتها العالية بامتياز.
اثار انتباهها مديرها، رجل جذاب بوسامته و قده و قوته و راحت تخطط للايقاع به و لكنه لم يكن لقمة سائغة و لا طيب القلب كزوجها .فتلاعب بها و رماها كجورب قذر .
عرف بدر بخيانة فتون التي كانت واثقة من نيل قلب مديرها فصارت تواعده نهارا جهارا فرمى عليها يمين الطلاق .
شعرت فتون في لحظة ما من وحدتها ،جرم ما اقدمت عليه بسبب طمعها و ولعها بالدنيا و لكنها لم تجرأ على محاولة اصلاح شيئا انكسر و قد تعلمت ان الجراح القديمة يحسن تركها كما هي بدل فتحها لمحاولة علاجها.
كانت فتون تريد انتزاع كل شيء من هذه الحياة من مال و حب و صحة وسعادة لكنها لم تدرك ان السعادة رضى بالموجود لا سعيا بالموعود و قد ظلت تتقاذفها الاقدار من يد الى يد و ظنها أنها المسيطرة على الأوضاع و أنها هي من تتلاعب بغيرها حتى ياتي يوم لن تصلح لأن تنظر اليها عين او يطمع بها قلب حينها ستدرك من كان الفريسة و من الصياد و ستتمنى لو أنها فقط تحظى بقلب دافىء و لو كلفها الدنيا و ما عليها .