تزينت الفتاة بنت الثمانية عشر ربيعا، علت وجهها ابتسامة كبيرة، بدأ قلبها ينبض فرحا و شوقا و أفكارها تغرد حنينا و لقاء. خرجت من غرفتها الصغيرة أو ربما غرفتها مع أخواتها الخمسة، رمت بالمرآة المكسورة في مكانها و تخطت الجثث الخمس جثة جثة. كانت هي الوحيدة بين أخواتها التي تعمل بالنهار و تكافح و تشقى من أجل توفير ثمن لترات الكحول لزوج أمها الحمار الذي كان أول من عرّفها بالعمل الجديد المربح و أول من تعرف على قدراتها و علّمها، و ثمن دواء أمها المقعدة و أخيها المجنون. أما الجثث الخمسة فكن مستقلات بذاتهن و سعيدات في عملهن الليلي.
حملت الياقوتة حقيبتها اليدوية المليئة بما تيسر من أدوات تزيين مستعجلة و هاتف محمول من أذكى الهواتف و أكثرها تحملا للضرب و الجرح و السب و الشتم، و وضعت ساعتها الذهبية النفيسة أو ربما كما تظهر صفراء تشع و تسر الناظرين إن نظروا إليها لأن هناك أماكن يحب الناظرون النظر إليها و لن يكون لهم الوقت الكافي لرؤية حقيبة اليد أو الساعة، بل منهم بعض المجتهدين ممن لا يجدون وقتا للنظر لوجهها الملائكي....
فتحت باب غرفتها بسهولة، باب ذكي يمكن أن يخترقه الإنسان فيميل و يتمايل ليترك له ممرا و طريقا، باب مؤدب و ابن ناس ليس كالأبواب الخشبية الغبية التي توقظ الجيران و تكشف الخطط و تفضح التلاعبات بأوقات العمل المرسومة. إنه مكون من بطانية طالما التحفت بها البنت الكبرى غليظة الرأس.
تخطت الشابة العقبة الأولى و لم يبقى أمامها إلا الباب القصديري الكبير، تسللت حتى كادت تطير و خرجت أخيرا لترى النور و الحياة في المزبلة المقابلة للباب و في البقرة السكيرة التي لا تكف عن مضغ القنينات و الأكياس البلاستيكية لتجعل منها حليبا يعج بعشرات الفيتامينات و البروتينات و مخلوقات أخرى لا تُعرف، و طعاما لناس كثر يتلذذون به.
لم تكن البقرة الحلوب الشيء الوحيد الذي رأته الفتاة بل كانت المزبلة تشهد مساواة حقيقية رائعة بين الماعز و الأبقار و الأغنام و الكلاب و البشر و حمار وحيد. كل يستفيد بطريقته، الحيوانات تجمع الفيتامينات باستثناء الحمار الذي كان يبحث عن حبيبته المختفية منذ أيام، لم يعلم المسكين بأنها راحت شهيدة و ذبحت بطريقة عجيبة و تغذى عليها الناس و تلذذوا أيضا، أما بنو البشر فقد كانوا يبحثون عن لقمة عيش و عن شيء مفيد يرمي به قاطنو الحي الارستقراطي المُقابل. كان منظرا عاديا يتكرر كل يوم إلا إذا اعتبرنا استشهاد الحمارة المسكينة خبرا عاجلا سيتكلم عنه أهل الحي لأيام قليلة و سيضحكون من الضحايا الذين التهموها و ينسون أبنائهم و أزواجهم و زوجاتهم طيلة هذه المدة التي ستعرف نموا كبيرا للرذيلة و الحب.
ركبت الفتاة الطاكسي و راحت للمكان المحدد لرؤية من أشعرها بأنها إنسانة و ليست مجرد أعضاء بشرية: فم، عنق، شعر،صدر و بقية الأعضاء المتبقية. كان شابا وسيما و طيبا للغاية استطاع بطيبته أسرها في زنزانة حبه و تقييدها بأحلامه و وعوده. تعرفا على بعضهما البعض في طاكسي حيث عبر لها عن إعجابه و تبعها طول الطريق حتى استسلمت و تكلمت معه، منذ ذلك اليوم و هما يلتقيان مرة كل يومين طيلة شهر كامل...
التقى الحبيبان فوق البحر، في الكورنيش، منظر رائع، البحر تحت و السماء فوق... بدأ كل منهما يستظهر ما يحفظه من كلمات معسولة و كلام جميل بالرغم من انه كان الأكثر معرفة بهذا الفن الراقي، استمرت الوعود بالزواج و عادت الأحلام لتطفوا حين التقت أيديهما. كانت الفتاة تصر على إخباره بشيء ما يؤلمها، تريد إخراجه و رميه باتجاهه، لكنه لم يترك لها الفرصة لأنه لم يكن في وعيه آنذاك فهو دائما ما يقترب منها لكنها تُبعده و تعيد يديه لمكانهما الطبيعي... أخيرا تكلمت و سمعها...
-حبيبي، أريد أن أخبرك بشي مهم يخص مستقبلنا. اسمعني من فضلك.
-تفضلي حبيبتي، كلي آذان صاغية، طلباتك أوامر يا مالكة فؤادي و أميرة أحلامي...
احمر وجه الفتاة و بدأت تتلعثم في الكلام، أنا أنا أنا ... ثم بدأت تبكي، استغل الحبيب الفرصة و عانقها بشدة.
-ما بك حبيبتي، اخبريني، ألست فارسك النبيل، سأقتل كل من يسيء لك أو يتكلم عنك و سأدمر البلد من أجله و أحرق الحي حبا فيك.
-تشجعت الفتاة بشدة و استجمعت قواها و قالت بكل ثبات: أنا اغتصبني زوج أمي قبل سنتين، ثم عادت للبكاء.
ابتعد الشاب قليلا و قال: ماذا، هل هذا صحيح؟ أجابته بنعم و أكدت أنها تريد ان تكون زوجته و حبيبته و هي ستتغير...
يضحك الشاب بشدة و يقول: هل تظنين أني كنت سأتزوج بك، أنا كنت أريد أن أفعل ما فعله زوج أمك لكنه سبقني للأسف، هل أنت مجنونة حتى أتزوج بك، أنت؟ أنا أريد أن أقضي معك ليلة رائعة و هذا سبب تمثيلي، هيا بنا الليلة ليلتنا...
تتوقف الأمواج و تختنق الأسماك في البحار، تشمئز السيارات و الحافلات المارة من كلمات الولد، تصمت الفتاة قليلا و تصرخ صرخة عظيمة، يغيب التفكير و يتجمد القلب و المشاعر و يبقى الجسد وحيدا ليقفز و يحلق في السماء ليسقط سقطته الأخيرة...