السلام عليكم ورحمة الله
--------------------------------
كل شيء بدأ في محطة البنزين ..
صار من عادتي نهاية كل أسبوع، وبعد أيام مضنية من العمل، أن أخرج بسيارتي إلى ضواحي المدينة، من أجل التنزه وتغيير الروتين اليومي، فلا شيء أفضل من الخلاء ورحابة الأفق للتخلص –ولو مؤقتا- من الضجيج والرتابة، التي يصير فيها المرء أقرب إلى آلة منه إلى بشر بلحم ودم ومشاعر.
كانت المرة الأولى في ذاك المساء المشهود، الذي وجدت فيها نفسي في ذاك المكان وفي ذاك الطريق، الذي يبدو وكأنه شق حديثا، أو على الأقل ما بدا لي حينها. وسط غابة كثيفة الأشجار، كسر هدوءها صوت السيارات المارة، على قلتها، وكنت مدركا –وأنا في طريق عودتي- أني على مسافة ليست ببعيدة عن مدينتي، ومع ذلك شعرت وكأني في بلد آخر، فأحيانا يجد المرء نفسه وكأنه غريب عن بلده فعلا.
وأنا أسوق ببطئ متأملا جمال الطبيعة، ومستمتعا بهدوء المكان، فإذا بالسيارة تتوقف فجأة، ولم يعد بالإمكان تشغيل المحرك بتاتا، فقد نفذ الوقود -في غفلة مني- بعد ساعات من السياقة.
وفي ذاك الموقف الذي لا أحسد عليه، وأنا أندب حظي العاثر، ظهر أحد الرعاة بقطيع من الأبقار، محاولا قطع الطريق إلى الجانب الآخر، فناديته لاستفساره ما إن كنا على مسافة قريبة من المدينة أم لا، وشرحت له ما حدث بالضبط معي. فأجابني أن المدينة لا تزال بعيدة نسبيا، لكن محطة للوقود لا تبعد كثيرا من هنا.
أخذت طريقي مشيا على الأقدام في اتجاه المحطة، وما هي إلى خطوات حتى بدت لي من بعيد لوحة إرشادية تفيد بأني على بعد 400 متر منها، فأسرعت الخطى على أمل اقتناء بعض الوقود والعودة بسرعة لأكمل طريقي من جديد.
وما إن وطئت قدماي المحطة، حتى فاجئني صوت عذب أنثوي من على يميني ..
مرحبا سيدي ..
استدرت نحو مصدر الصوت فإذا بها إحدى عاملات المحطة، تيقنت من ذلك بمجرد رؤيتي للباسها الموحد مع باقي العمال المنتشرين هنا وهناك، ولو لم أسمع صوتها لخلتها رجلا، خصوصا وأنها كانت ترتدي قبعة كجميع زملائها.
شرد ذهني وفقدت الإحساس بما حولي بمجرد أن نظرت إليها وهي تقترب مني .. جمال ملائكي أضاء وجهها، وبراءة نطقت بها عيونها وابتسامتها.
طأطأت رأسها خجلا من حدة نظراتي في عينيها ..
نعم سيدي ..
صراحة نفذ وقود سيارتي على مسافة من هنا، وأريد بعض البنزين إن أمكن.
حاضر سيدي .. ما الكمية التي تريدها؟
بعض اللترات تكفي، لأن رجوعي للسيارة وأنا أحمل ثقلا سيتعبني.
طيب سيدي لحظة ..
أخذت قنينة متوسطة الحجم، وبدأت بضخ الوقود فيها، وأنا أرقبها وأتأملها، إذ من البديهي أن عمل المرأة في محطة للوقود مثير للاستغراب، لكن ما أثارني أنا هو جمالها وحسنها.
تفضل سيدي ..
شكرا ..
المعذرة ! نسيت محفظة نقودي في السيارة.
لا مشكلة سيدي، إن كان طريقك في اتجاه المحطة، يمكنك أخذ البنزين وبعد وصولك إلى هنا أدي ثمنه.
نعم أنا في اتجاهي نحو المدينة، شكرا لك، هذا لطف منك.
وأنا في طريقي نحو السيارة، لا أدري لما لم أشعر بنفس بعد المسافة وأنا قادم للمحطة، على الرغم من حملي للبنزين .. !
وبعد أن عبأت الخزان انطلقت متلهفا من جديد نحو المحطة ..
دخلت، وأوقفت سيارتي عند نفس المضخة ونزلت مطالبا منها أن تشحن المزيد من البنزين.
وفي اللحظة التي كنت أناولها المبلغ المقابل، حملقت من جديد في عينيها، ومن خجلها استدارت بوجهها صوب المضخة لتثبيت المقبض رغم أنه كان مثبتا.
خرجت من المحطة وأنا أطرح تساؤلات غريبة ..
هل انتهى كل شيء؟؟
هل فعلا هذا ما يسمونه بحب أول نظرة؟؟
---
بدأت أسبوعا جديدا من العمل، وأنا كلي شوق لنهايته والعودة من جديد للمحطة. كانت خمسة أيام طويلة أرقت مضجعي، وكأنني عشتها خمسة أعوام كاملة، جسدا بلا روح، ظاهره رحمة وباطنه عذاب، كمن تقطعت به السبل في صحراء مقفرة، مع إدراكي اليقين بأن الرجل بلا صبر كذاك المصباح الذي نفذ زيته.
تعمدت ألا أشحن البنزين خلال الأسبوع حتى يكون الخزان فارغا في اليوم المشهود، وإن كان من معنى حميد لمقولة "مكيافيللي" الشهيرة، فإني استعرتها حينها، لنبل غايتي ولباقة وسيلتي.
أخذت طريقي، والشعور بالارتباك يتسرب إلى دواخلي، وانهالت علي من جديد التساؤلات ..
هل ستتذكرني؟
كيف سأبدأ حديثي معها؟
...؟؟
كنت أذكر نفسي بأن اختيار الكلام أشد من نحت السهام، وأؤلف سيناريو كلامنا نحن الاثنين، وأتحاور مع نفسي، وأفتح سقف طموحي لأوسع مدى بين العبارات والكلمات.
دخلت المحطة، وركنت السيارة في ذات المضخة التي كانت فيها، ونزلت، قبل أن يقترب مني أحد العمال مبتسما في وجهي ..
مرحبا ! كم ستشحن سيدي ؟
...!
ملء كلي؟
كان يتكلم معي وأنا ألتفت يمنة ويسرة فلا أجد لها أثرا.
نعم ملء كلي !!
حاضر
ممكن أسألك سؤال؟
تفضل ..
أين هي تلك الفتاة التي كانت هنا الأسبوع الماضي؟ هل هي في إجازة؟
لا سيدي .. الأخت "زينب" رحلت إلى ربها قبل أيام.
......... !!!!
هل أنت من معارفها سيدي؟
........ !!!!
لا أدري أي شعور ذاك وأية صاعقة تلك، التي نزلت علي حينها. تجمدت في مكاني، جاحظا بعيناي في وجهه والذهول يعيث في نفسي خرابا .. !
هل أنت بخير سيدي؟
لم أقوى على شيء حينها، حتى الكلام أبى أن يفارق لساني المنعقد من هول ما قذف على مسامعي، صعدت السيارة تاركا الباب مواربا. لم أتمالك نفسي، فوضعت رأسي على المقود، ورضخت مستسلما لما هزني، وتمنيت حينها لو أن الأرض انشقت وابتلعتني، وابتلعت صدمتي.
الحساب سيدي لو تكرمت ..
... !
!؟ ...
اعذرني .. !
لا مشكلة سيدي .. جَلّ من لا يسهو.
لا أجد محفظة نقودي، ولا أدري أين تركتها !
إنها هناك سيدي بمحاذاة مبدل السرعة.
لا حول ولا قوة إلا بالله .. المعذرة ! .. تفضل.
هل أنت بخير؟ !
نعم شكرا ..
تفضل سيدي .. انطلق لو تكرمت لأن زبونا جديدا وراءك يريد أن يشحن هو الآخر.
كنت عاجزا عن كل شيء، ما بالك بقيادة سيارة .. تمنيت لو أن نسيم طيف أتى ليدغدغ رموش عيني ويوقظني من حلم وردي، تحول بين عشية وضحاها إلى كابوس مرعب، لكن شيئا من ذاك لم يحدث، فبات لزاما علي تجرع مرارة الكأس، التي سقيت منها على حين غرة.
ركنت سيارتي في مرآب عند طرف المحطة، ونزلت لألتهم الهواء، وأزيح عني ثقل الصدمة الجاثم على صدري ..
لم يهنئ لي بال لما حدث، ظللت أقنع نفسي أن ما قاله عامل المحطة مجرد افتراء، إذ كيف يعقل أن تموت بهذه البساطة وهي التي فقط قبل أسبوع كانت في كامل صحتها !!
عدت من جديد إلى العامل، ورجوته أن يخبرني حقيقة ما جرى بالضبط معها، فطلب مني أن أنتظره قليلا إلى أن ينهي عمله.
تركته وجلست -على بعد أمتار منه- على كرسي خشبي عريض، عادة يستخدمه عمال المحطة للاستراحة في انتظار الزبائن، إذ هو وقت مناسب لأخذ رشفة قهوة أو شاي مصحوب بسيجارة سريعة، وما امتلاء المكان بأعقاب السجائر، ودوي نحل يحوم حول ما بقي في قعر الكؤوس من سكر ونعناع، إلا علامات أكيدة على ما ذهب به ظني ..
بسطت رحاتي يداي، واستسلمت لهما بوضع رأسي المثقل بهول ما سمع، وما قد سيسمعه، وصرت ألملم شظايا فؤادي المنكسر على صخرة صدمتي. وما هي إلا لحظات حتى وقف علي العامل ..
نعم سيدي ..
اعذرني، لكن ما أخبرتني به عن "زينب" لم أقوى على استيعاب حمولته الثقيلة، أريد أن أسمع منك كل شيء عن حقيقة ما جرى بالضبط.
كنت أدرك -وأنا أحملق في وجهه- أنه متوجس خيفة مني وممن قد أكون، ولما أنا مصر عليه أن يخبرني ما جرى، وكنت أدرك أن إلحاحي وإصراري عليه سيجعلانه يقدر عِظَم ما أصابني من كلامه .. لكن كان كل ما أخبرني به هو أنه لا يعرف الكثير من تفاصيل ما حدث معها، وكل ما يعلمه هو ترددها على مستشفى المدينة من حين لآخر خلال الفترة التي قضياها معا زميلين في العمل، مما خلف في نفسي شعورا كمن تهوي به الريح في مكان سحيق، وبدأت أوقن أنها بالفعل غادرت هذا العالم.
طلبت منه أن يدلني على بيت عائلتها إن كان يعرف له سبيلا، تردد قليلا، ربما خوفا –حسب ما بدا من ملامح وجهه- من أن يحشر نفسه في معمعة لا ناقة له فيها ولا جمل، هكذا شعرت، ثم تفهم إلحاحي عليه أخيرا وأرشدني على المسار الذي يجب أن أتبعه حتى أصل بسلاسة أنا وسيارتي إلى مقصدي، فالمكان هنا معزول وبعيد عن المدينة، ولولا شق طريق معبد فيه لما كانت محطة البنزين، ولما كانت "زينب"، ولما كانت صدمتي.
أخذت طريقي لمسافة اقتربت من الكيلومتر، قبل أن أستدير يسارا حيث الطريق الالتفافي الترابي المخترق للتلال والحشائش والشجيرات، إلى حيث سأستفسر من سأصادفه عن بيت "زينب"، حسب تعليمات عامل المحطة ..
وأنا في الطريق طرحت على نفسي سؤالا، هل أنا فعلا في مكان لا يبعد كثيرا عن مدينتي؟ لما هذا الشعور وكأني غريب في محيطي، حتى لا أقول في وطني؟ فكل شيء هنا يبدو على سريرته، البساطة عنوان كل شيء يلفني يمينا ويسارا. بيوت بالكاد أعدها على رؤوس أصابعي، وعلامات الاستغراب والفضول بادية على وجوه من أصادفهم من حولي ..
استغليت فرصة تجمع بعض الصبية على جانب الطريق وهم يلعبون كرة القدم، فركنت سيارتي ونزلت لكي أسألهم عن بيت "زينب" ..
استشعرت غرابتي في عيونهم البريئة، وتلمست في نظراتهم فضولا جامحا حول من أكون ولما أنا هنا ..
مرحبا أصدقائي .. ممكن أن أسألكم عن بيت "زينب" عاملة محطة البنزين التي توفيت مؤخرا؟
أشاروا بأصابعهم جميعهم وفي ذات اللحظة، نحو البيت -الذي يبدو بالفعل أني صرت قريبا منه- وكأن كل واحد فيهم يرى نفسه الأحق بسماع كلمة شكرا مني أو ربما "حلاوة" ممن نال مراده أخيرا بعد عناء ..
ها أنا الآن أخيرا على بعد خطوات من البيت، وها هي هوة اقتناعي بأني فقدت "زينب" إلى الأبد قد زادت اتساعا، ودرجات اليأس ازدادت تسربا إلى قلبي، وأيقنت بالفعل أني لا محالة، ومن دون شك، أصطاد في ماء عكر.
صمتُّ قليلا وغرقت في تفكير وشرود ذهن عميقين ..
هل ممكن أن أطلب منكم حراسة سيارتي للحظات قبل أن أعود؟
نعم نعم، اذهب ولا تخف، سنحرسها جيدا (...) ..
أخذت خطواتي إلى البيت، وفي ذات اللحظة التي انهالت علي فيها تساؤلات حول الكيفية والصفة التي سأتحدث بها مع أهلها، استدرت ورائي نحو السيارة لأجد الصبية وقد تحلقوا حولها، وتركوا كرتهم ولعبهم، واطمأن بالي –مع ما فيه من غم- لأني تركتها في أيد أمينة.
ها أنا الآن على بعد خطوتين من البيت، ويبدو أنه لا يزال موشحا برداء الفراق، فالباب والنوافذ موصدة بإحكام، والصمت المطبق يلف جنباته، وحتى الشجيرات المحيطة به لم يعد لها حفيفا، ولا للأزهار عبيرا، ولا لقطط البيت مزاجا تستقبل به الغرباء، مفضلة الانزواء بعيدا ..
ترددت قليلا قبل أن أطرق الباب، وما هي إلا لحظة، وإذا بطفل بين السابعة والثامنة من عمره يفتح الباب ..
بادرته بالتحية وسألته ما إن كان هذا هو بيت المرحومة "زينب" عاملة محطة البنزين.
فأجابني وعلامة استفهام كبيرة فوق رأسه، وكأني أشاهد فيلم كرتون ..
نعم سيدي، ومن تكون أنت؟
بدا سؤاله جديا وواضحا من خلال سحنات وجهه التي عكست ذلك، وطرحت على نفسي من جديد ذات السؤال .. فعلا من أكون أنا؟ وبماذا سأجيبه؟ ولماذا أنا هنا أصلا؟
......(!)
فكرت أن أعود من حيث أتيت، لأنه لا معنى لتواجدي هنا، و"زينب" بالفعل غادرت هذا العالم، إذ بدوت وكأني أخوض معركة في حلبة محتدمة، وأنا مجرد من أي سلاح، لكن شعورا غريبا اعتراني وأبى إلا أن أمضي في خوض المعركة، وهي ربما تكون خاسرة، وشبهت نفسي حينها كذاك اللاعب على الناي المستمر في العزف رغم وجود ذبابة تحوم حول أرنبة أنفه.
استجمعت أنفاسي وأردفت :
هل ممكن أن تنادي على أحد من أفراد عائلتك؟
وفي ذات الأثناء سمعت صوتا خافتا مبحوحا وكأنه لأمرأة طاعنة في السن ..
"من الطارق يا عصام ..؟"
أغلق الباب في وجهي من دون أن يوصده تماما، ليتناهى إلى مسامعي رده عليها وهو يقول : "لا أدري أمي !إنه رجل يسأل (.......)" ليخفت الصوت تماما، حتى لم أعد أميز من حروفه شيئا.
وما هي إلا لحظة حتى فُتح الباب من جديد، لكن هذه المرة جرعة الصدمة كانت مضاعفة إلى حد أنني شعرت بضغطي ينزل وخفقان دقات قلبي يتسارع، حتى كاد يغمى علي ..
عفوا سيدي .. من تكون .. وماذا تريد؟
...... !!!!
...
كانت هي بذاتها، شاخصة أمام أبصاري، بنغمة صوتها، وبنظراتها وبخديها المتوردين، ولون عينيها الكستنائي .. شعرت وكأني أفقت من كابوس مزعج، أو كأني دخلت في آخر أكثر إزعاجا، وبدا وكأن قطعا من الصقيع البارد تنهمر علي رذاذا زمهريرا، ولم أشعر بنفسي إلا وأنا مستندا على ركبتاي أرضا.
رأيت في عينيها اندهاشا غريبا من هول ما أصابني، وبدا لي وكأنها تريد أن تصرخ بأعلى صوتها، ربما ظنت أني قد أصاب "بسكتة دماغية" ..
هل أنت بخير؟
......!
عصاااااااام !!!
أنا بخير شكرا .. ممكن كوب ماء لو تكرمت؟
حاضر لحظة !
شربت الماء بلهفة - لدرجة أنه انهمر على ثيابي- قبل أن أقف على رجلاي ..
أنت "زينب" عاملة محطة البنزين؟ !!!
لا سيدي، "زينب" توفيت قبل أيام، أنا أكون "زينة" أختها التوأم.
........ !!!
عفوا .. ومن تكون أنت؟
أنا ...... (..)
صمت قليلا وأنا أنظر إليها بارتباك وخوف كبيرين، وأردفت بعد أن بلعت ريقي :
عظم الله أجرك في أختك.
بارك الله فيك.
عم صمت مطبق للحظات قبل أن أستمر في حديثي :
ممكن أدخل لأعزي أهلك في مصابهم؟
لكن من أنت؟
حدقت في عينيها مطولا من دون أن أنبس ببنت شفة، إلى أن اعتراها نوع من الخجل الممزوج بكثير من التوجس، لتختفي عن أنظاري لبرهة، قبل أن تعود وتطلب مني أن أتفضل، وكأنها ارتاحت لدخولي بعد أن استشارت أهلها كما بدا.
دخلت وأنا مرتبك ومتردد، لكن في ذات الآن كنت أحاول أن أبدو أكثر هدوءً، وأكثر بشاشة على وجهي، لأني أدرك أنها حبل المودة قطعا. وأول ما أتت عليه عيناي -وأنا بداخل البيت المتواضع- هو صاحبته وهي نصف ممددة على أريكة قديمة وبجانبها مائدة صغيرة منتثرة عليها شتى صنوف الأدوية ..
بدت المرأة غير طاعنة في السن، لكن الزمن والمرض فعل أفاعيله بها.
السلام عليكم حاجّة
وعليكم السلام بني .. (وهي تحاول أن تأخذ جلستها على الأريكة).
دعكِ مرتاحة سيدتي .. (…) الحاج صاحب البيت موجود؟
لا يا بني، صاحب البيت فارق الحياة منذ مدة.
الله يرحمه .. وعظم الله أجرك في بنتك "زينب"، "والله يبدل محبتها بالصبر"
الله يبارك فيك، تفضل بني اجلس.
جلست، وعلامات الخجل بادية على محياي، ربما لم أكن أجرؤ على النظر في وجه المرأة أو حتى ألتفت يمنة أو يسرة ..
وبفضول لبق ولطيف قالت :
وكأنك صاحب المحطة التي كانت تعمل فيها ابنتي "زينب" ؟!
لا سيدتي، في الحقيقة أنا أحد زبائن المحطة التي كانت تعمل فيها المرحومة، وقد جئت اليوم إلى المحطة وقالوا لي هناك أنها توفيت، وصراحة صعب علي تصديق ذلك، وأتيت بنفسي إلى هنا لأستطلع الأمر.
نعم يا ابني، نحن أيضا لم نصدق ذلك بداية، لكنها إرادة الله، فزينب كانت مريضة.
هل مرضت بسبب طبيعة عملها؟
لا يا بني، "زينب" كانت مريضة منذ صغرها، لكننا لم نلحظ عليها ذلك، وبعد وفاة أبيها قبل أربع سنوات أصبحت هي معيل الأسرة الوحيد، بعد أن تركت دراستها وهي في السنة الأولى من المرحلة الثانوية، لتضمن لنا لقمة خبز ومصاريف دراسة أخويها، فبفضلها استطاعت أختها الالتحاق بالجامعة هذا العام ..
واستطردت وهي تذرف دموعا حارة : "زينب" كانت مصابة باللوكيميا، لكننا لم نكتشف ذلك إلا في مراحل متقدمة من مرضها، ومنذ مدة وهي تتابع علاجها عند طبيب في المدينة، وكثيرا ما كان يوصيها بألا تتعب نفسها كثيرا، لكن عنادها وإصرارها على أن تكمل أختها دراستها الجامعية كان أقوى منا جميعا، ربما لأنها تمنت لأختها أن تحقق ما لم تستطع تحقيقه هي، وحتى موتها الغير متوقع فاجأنا، لأنها كانت تبدو في حالة جيدة إلى حد ما، لكن قدر الله وما شاء فعل، أما وقد فقدنا معيل الأسرة، فلا محيد من أن أختها ستكون مضطرة للانقطاع عن الدراسة والبحث عن عمل لإعالة البيت وتسديد مصاريف علاجي.
كانت تحكي لي عن مآسي العائلة وأنا أقلب كفاي، وأنظر إليها فاغر الفاه، وجاحظ العينان. وبنهاية كلامها عم الصمت من جديد، ودخلت في دوامة من الحيرة، تشتتت معها أفكاري، وبين الفينة والأخرى، كنت أحاول أن أرفع رأسي قليلا، وأحوم بناظري بين مختلف أرجاء البيت، إذ كانت كل زاوية من جدرانه مرصعة بصور العائلة، خصوصا صور "زينب" و "زينة" وهما معا، وفي مختلف مراحل عمرهما، إذ بدتا وكأنهما واحدة، حتى ملابسهما كانت متشابهة.
ازداد توتري وأنا أعيد شريط الأحداث والمواقف التي قادتني إلى هنا، فكل شيء بدأ من أول وآخر مرة رأيت فيها "زينب" في المحطة، لكن واقعي الجديد يقول أن ما اختزنته من مشاعر عنها في تلك اللحظة الوجيزة من لقائي بها لم تمت، وظلت موشومة في ذاكرتي، و"زينب" أيضا لم تمت بالنسبة إلي، وصرت أكثر يقينا أنه مهما تقدم العقل فلن يصل إلى ما وصل إليه القلب.
كانت المرأة لا تتوقف عن ترديد عبارات من قبيل "الحمد لله" و"لا إله إلا الله" وغيرها، مما جعلني أهدأ قليلا وأنا الأحوج ما يكون للدعة والسكينة في مثل هذا الموقف ..
حمحمت قبل أن أتابع كلامي ..
ما شاء الله يا حاجّة، ابنتيك تبدوان وكأنهما شخص واحد، يتشابهان في كل شيء ..
ابتسمت وقالت :
نعم يا بني، حتى الجيران وزملائهما أيام دراستهما معا، كانوا كثيرا ما لا يفرقون بينهما.
نعم، كذلك حصل معي نفس الشيء قبل قليل عند الباب، حتى أني اعتقدت أن "زينب" لم تمت، وكاد يغمى علي قبل أن تخبرني بأن اسمها "زينة" وهي توأم المرحومة.
نعم يا بني، استشعرت ذلك حينما صرخت ودخلت إلى المطبخ لجلب الماء لك، وأكدت لي هي ذلك قبل أن تأذن لك بالدخول.
دخلت في لحظة جديدة من الصمت، وفي تفكير عميق، قبل أن أحمحم من جديد وأردف :
أعرفك بنفسي حاجّة، أنا اسمي نبيل، وعمري 26 عاما وأعمل مهندسا في شركة الكهرباء بالمدينة. لن أخفيك سرا إن قلت لك أن سبب تواجدي هنا كان هو "زينب"، لكن أما وقد رحلت عنا، فأنا الآن أطلب يد ابنتك "زينة" للزواج إن قبلتموني.
نظرت إلي باستغراب كبير من انسيابيتي وعفويتي في الحديث معها، وهي تحاول من جديد أن تأخذ جلستها على الأريكة ..
لكن الأمر متوقف عندها هي يا بني فإن قبلت فمرحبا بك وبأهلك.
خيرا إن شاء الله.
حملت جسدها النحيل بصعوبة من على الأريكة، وبينما نهضتُ محاولا مساعدتها، طلبت مني أن أجلس وألا داعي لذلك، ثم انصرفت لبعض الوقت لاستشارة "زينة" في الموضوع، لكن تلك المدة بالنسبة إلي كانت من أطول ما يكون، وبدا وكأن شيئا من الخوف والتوتر دب إلى صدري حينها، وانتشرت في شراييني قشعريرة غريبة، وصرت أقلب ذراعاي بعد أن كنت أقلب كفاي.
ثم عادت وأخذت مكانها على كرسي خشبي قبالتي ..
البنت موافقة يا بني وأنا أيضا، ونحن في انتظارك وأهلك لقراءة الفاتحة، والله يجمع بينكما في الحلال.
كان كلامها بردا وسلاما علي، وشعرت وكأني أجمع المجد من طرفيه وأنا موشح بتاج أميري ..
هذا شرف كبير لي سيدتي، إن شاء الله نأتي في نهاية الأسبوع القادم.
إن شاء الله بني.
أتركك الآن في رعاية الله.
رافقتك السلامة.
---
في محطة البنزين بدأت الحكاية،،
وهنا في حينا اجتمعت عائلتينا وأنا و"زينة"،،
وذكرى "زينب".
...
انتهت ...
...