قوله صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ) ، فجعل الدين هو النصيحة ، كما جعل الحج هو عرفة ، إشارةً إلى عظم مكانها ، وعلو شأنها في ديننا الحنيف .
والنصيحة
ليست فقط من الدين ، بل هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فإنهم قد
بعثوا لينذروا قومهم من عذاب الله ، وليدعوهم إلى عبادة الله وحده وطاعته
، فهذا نوح عليه السلام يخاطب قومه ، ويبين لهم أهداف دعوته فيقول : { أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم } ( الأعراف : 62 ) ، وعندما أخذت الرجفة قوم صالح عليه السلام ، قال : { يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين } ( الأعراف : 79 ) .
ويترسّم
النبي صلى الله عليه وسلم خطى من سبقه من إخوانه الأنبياء ، ويسير على
منوالهم ، فيضرب لنا أروع الأمثلة في النصيحة ، وتنوع أساليبها ،
ومراعاتها لأحوال الناس واختلافها ، وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد موقفه
الحكيم عندما بال الأعرابي في المسجد ، فلم ينهره ، بل انتظره حتى فرغ من
حاجته ، يروي أبو هريرة رضي الله عنه تلك الحادثة فيقول : " بال أعرابيٌ في المسجد ، فثار إليه الناس ليقعوا به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دعوه ، وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء ، أو سجلا من ماء ؛ فإنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين ) رواه البخاري .
وفي
الحديث الذي بين أيدينا ، حدد النبي صلى الله عليه وسلم مواطن النصيحة ،
وأول هذه المواطن : النصيحة لله ، وهناك معان كثيرة تندرج تحتها ، ومن
أعظمها : الإخلاص لله تبارك وتعالى في الأعمال كلها ، ، ومن معانيها كذلك
: أن يديم العبد ذكر سيده ومولاه في أحواله وشؤونه ، فلا يزال لسانه رطبا
من ذكر الله ، ومن النصيحة لله : أن يذبّ عن حياض الدين ، ويدفع شبهات
المبطلين ، داعيا إلى الله بكل جوارحه ، ناذرا نفسه لخدمة دين الله ، إلى
غير ذلك من المعاني .
وأصل النصيحة : من الإخلاص ، كما يقال :
" نصح العسل " أي : خلصه من شوائبه ، وإذا كان كذلك فإن إخلاص كل شيء
بحسبه ، فالإخلاص لكتاب الله أن تحسن تلاوته ، كما قال عزوجل : { ورتل القرآن ترتيلا } ( المزمل : 4 ) ، وأن تتدبر ما فيه من المعاني العظيمة ، وتعمل بما فيه ، ثم تعلمه للناس .
ومن
معاني النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : تصديقه فيما أخبر به من
الوحي ، والتسليم له في ذلك ، حتى وإن قصُر فهمنا عن إدراك بعض الحقائق
التي جاءت في سنّته المطهّرة ؛ انطلاقا من إيماننا العميق بأن كل ما جاء
به إنما هو وحي من عند الله ، ومن معاني النصح لرسول الله صلى الله عليه
وسلم : طاعته فيما أمر به ، واتباعه في هديه وسنته ، وهذا هو البرهان
الساطع على محبته صلى الله عليه وسلم .
ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : ( وللأئمة المسلمين ) ،
والمراد بهم العلماء والأمراء على السواء ، فالعلماء هم أئمة الدين ،
والأمراء هم أئمةٌ الدنيا ، فأما النصح للعلماء : فيكون بتلقّي العلم عنهم
، والالتفاف حولهم ، ونشر مناقبهم بين الناس ، حتى تتعلّق قلوب الناس بهم
، ومن النصح لهم : عدم تتبع أخطائهم وزلاتهم ، فإن هذا من أعظم البغي
والعدوان عليهم ، وفيه من تفريق الصف وتشتيت الناس ما لا يخفى على ذي
بصيرة .
وأما النصيحة لأئمة المسلمين فتكون بإعانتهم على القيام بما حمّلوا من أعباء الولاية ، وشد أزرهم على الحق ، وطاعتهم في المعروف .
والموطن
الرابع من مواطن النصيحة : عامة الناس ، وغاية ذلك أن تحب لهم ما تحب
لنفسك ، فترشدهم إلى ما يكون لصالحهم في معاشهم ومعادهم ، وتهديهم إلى
الحق إذا حادوا عنه ، وتذكّرهم به إذا نسوه ، متمسكا بالحلم معهم والرفق
بهم ، وبذلك تتحقق وحدة المسلمين ، فيصبحوا كالجسد الواحد : ( إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) .