قيظُ شديد يلفّ كل شيء ويصطبغ به كل ما فى الانحاء . لفحات الحرارة شديدة البأس تعيد الكرّه من آن لآخر وتواصل اندفاعاتها كأمواج هادرة حتى لتكاد تبلغ مبلغ الصفعات القاسية التي لا تعبّر إلا عن إنزال الهزيمة بالخصوم . الفناء البلاطي الذي يتلو أحد مداخل قسم الشرطة يبدو مفتقداً ملامحه وقد إكتسته وعلته الاتربة ، وعلى سطحه تتبدّى الآشعة الشمسيّة وكأنها قد إنبسطت كإحدى المفروشات الكتّانية . ربما يحسبه اجنبياً يوماً استثنائياً ، ولكن لسوء الحظ ، إنه ليس سوى يوماً تقليدياً من أيام الصيف العديدة في مصر .
تتقدّم إحدى السيدات وتلج القسم في خطى متمهّلة وهي تبعثر تحاياها يميناً ويساراً في حرارة ، وقد غاص جسدها السمين الممتليء ذو التعاريج اللافتة للنظر والبشرة البيضاء التي تبدو عليها علائم اللزوجة والتعرّق في " بلوزة " فضفاضة ذات ألوان مشجّرة .
تتقدّم بإتجاه مكتب إستخراج صحف الحالة الجنائية في خطوات متمايلة قليلاً علّها تحظى بنظرة إعجاب أو حتى إشتهاء من هنا او هناك ، فنظرة واحدة عابرة إلى المرأة ، نظرة عابرة إلى هذا المخلوق الرقيق قد تصنع حدثاً ، إما جرحاً غائراً متعذّراً على العلاج كل التعذّر ، أو ليلة هادئة تهفو بها النفس وتنعم بسكينة تضع نقطة فاصلة في وسط ركام هائل من ليالي العوز والحرمان .
سرعان ما يفتضح أمرها إن وصلت دون أن تقوم بالتوقيع بإستمارة الحضور أو دون أن يلتفت إليها أحداً ، إذ ما هي إلا نصف ساعة بعد أن تستوي فوق مقعدها الخشبي حتى تفوح رائحة البصل الأخضر منبعثة من مكتبها لتعلن عن حضورها . تلتهمه وحدها تارة إلى جانب الفول والفلافل والمخللات ، وتارة آخرى يشاركها ذاك الزميل الأشيب الذي لا يقضى ساعات عمله إلا بغمس الأصابع بالأحبار
تلك هي مدام هناء التي تبدو في ثوبها الناصع الشفاف حيناً ، كما تظهر كشريدة تتلاطمها الأمواج أحاييناً .
تدُب الحياة في أوصال المكان . البعض يبدي حركة دائبة ، والبعض الآخر منهم يتبدّون كأشلاء وجثامين منزوية بالأركان بلا حراك . تعدّل مدام هناء وضعيّة نظارتها المرتكزة إلى أسفل عند طرف أنفها الدقيق لتكاد تلامس وجنتيها الشاحبتين . لا تجيب إلا بعبارات متأخرة ومقتضبة ، ترمق طابور الإنتظار خلسة بنظرات خاطفة تخلو من اي تعبير بينما تفرغ يدها اليمنى من سكب البيانات على الورق ، نظرات ربما تضفي على الإنتظار شيئاً ما ، أو ربما من شأنها تصدير الإطمئنان والشعور بالأهتمام بالمواطن في عصر ما بعد الثورة .. من يدري !؟
يقترب منها شاباً يبدو متجاوزاً العشرين بقليل برفقة شاب آخر ، حليق الرأس ، بارز الفكّين ، ممتد القامة ، ينتظره بالخارج . يحملق بها ، لا تعيره اهتماماً . " محتاج ورقك لإيه ؟ " هكذا قالت وعينيها إلى أسفل ، " للسفر " أجاب هو ، فين ؟ ، " الإمارات إن شاء الله " . تتلفّت حولها قبل أن تنطق : أستاذ حسين مش موجود ، مش هقدر املأ الورقة النهاردة طالما هو مش موجود . " حضرتك تقدري تبصّمى له بنفسك ، أو على الاقل تخليه يبصّم لنفسه ، أو أبصّم له انا .. المهم تكون الورقة في مديرية الأمن النهارده او بكره او اياً كان مكانها على حسب شغلكم . إحنا مستعجلين الحقيقة " هكذا قال الشاب الرفيق في نبرة تشوبها الحدّة . " مش هينفع يا أستاذ . أظن كلامي كان واضح . إنت في مكان شغل له قواعد ، وكل موظّف له صلاحياته " . هكذا قالت في لهجة واثقة لم ترتفع او تنخفض عن الحد قبل أن توجه ناظراها لأعلى لتكتشف رحيل الشابين دون أن يتفوّها بحرف .
بعد الثانية والنصف بقليل . تتجه للخارج بعد إنقضاء يوم عمل كان ثقيلاً على نفسها ، الجميع يتدفّقون إلى الشوارع والطرقات ما ضاق منها وما إتسع ، المواصلات الحكومية وبعض الخاصة منها تحوي ما يقارب ضعف طاقتها الإستيعابية حيث القامات منتصبة والرؤوس مدلّاة إلى الخارج . مدام هناء منشغلة بالإلتفات إلى أغطية الرأس وأكمام الملابس النسائية ، فهي لديها من الوله بتناسق الأشياء ما يدفعها إلى الإنتباه لغطاء رأس منكمش قليلاً ، أو أطراف فستان طويلة أو مهترئة قليلاً . تنتابها حينئذ تلك اللذّة النسوية بأفضلية ما لها من مظهر .
يهتز هاتفها ، تجيب في هدوء : أهلاً يا سها ، أخبارك إيه ؟ ، صديقتها : أنا كويسة وإنتي ؟ معايا تذكرة ليكي لعرض مسرحي إسمه الدكتاتور ، المسرحية هتبدأ الساعة 7 . إيه رأيك ؟ . أبطاله جدد ؟ ، تستطرد صديقتها ضاحكة : معظم الممثلين شبّان .. شبّان في الخمسين ! . زى ما إ.... ، تقطع عليها الطريق لتقول في نبرة يتمازج بها التهكّم بالجد : دي موجة من موجات معارضة ما بعد الفوضى ولا تصنفيها إزاى ؟ . فكرتيني بشريك بابا في شغله ، هو سوري ، وبيقول إن اللي قايمين بثورة شعبية في سوريا مجرد مثيرين للشغب أو عملاء . لكن دايماً كنت بحس بنبرة الأسى في كلامه . أفتكر إن كلامه مصدره هو الحقد على الشعوب اللي قامت بثورات حققت نتايج ملموسة . ومع ذلك إنتي بالذات أنا متفهمة موقفك من مسألة الثورات .. أو الفوضى ( تقولها باسمة ) .
" إحنا أخدنا شهادات وعملنا دراسات عن الفوضى في العراق " قالت في لهجة صاخبة .
" فيه فرق يا هناء بين فوضى الحروب الأهلية والإستعمار وفوضى الثورة الشعبية . ثم إنك في مصر من خمس ست سنين ، كل دة لسه على نفس حالك ؟ "
" مش مهم . فكّرتيني بآخر أيامي في السليمانية ، كانت حياة سياحيّة بمعنى الكلمة . آخر أيامي فيها كانت على جبل إزمر ، وبعدها سمعنا خبر سقوط بغداد وقرر جوزى وقتها إننا ننزل مصر فوراً " .
" بصراحة يا هناء أنا مش شايفة أي سبب لإنفصالك عن جوزك طول السنين دي . حتى لو مش علشانك فعلشان هشام إبنك " .
تزفر هناء تنهيدة خارجة من الأعماق قبل أن تقول : إحنا منفصلين من خمس سنين ، والسبب الوحيد اللي أنا موجودة علشانه هو إن هشام يعمل عملياته ويرجع لمستقبله في الكورة حتى لو كان قرر إنه يعيش مع أبوه . السبب الوحيد اللي كنت ممكن أكمل علشانه هو إنه يساعدني في توفير تكاليف العمليتين ، لكن بعد مشاكله في شغله وخسارته في البورصة بقى الموضوع واضح بالنسبة لي . "
لاذت صديقتها بالصمت برهة قبل أن تسائلها : أفتكر إن هشام إتصاب مع ناديه وهو في سن سبع سنين تقريبا او اكتر بشهور . تفتكري عمليات العظام والغضاريف بعد الفترة دي هتكون مفيدة بالنسبة لمستقبله في الرياضة ؟
" الظروف فرضت علينا دة يا سها وأكيد هتكون مجدية لمستقبله مع أي نادي " .
على العموم العرض هيبدأ الساعة 7 زى ما قلت لك . هيكون في مسرح السلام في شارع القصر العيني . هستناكي .
إنتهي العرض . كان الخروج يسيراً كما الدخول فالحضور كما العادة كان متواضعاً . المتفرّجون يتهامسون بشأن ما قد إنتهى توّاً . تُكسب محاكاة الواقع الإنسان المرهف شيئاً من المناعة ضد كل ما هو واقعي على نحو ما ، فتراه صموتاً لدقائق تطول أو تقصر بعد إنتهاء المحاكاة . هذا ما تبدّى على أسارير بعضهم ، وظهر بعضهم مزهوّاً مكتسياً بثوب الثقافة .
" مدام هناء . إبن حضرتك في مستشفى " النيل بدراوي " ، قسم العناية المركزة .. غرفة 63 - هذا ما أخبرها إياه أحدهم في مكالمة قصيرة - . تنطلق برفقة صديقتها ، تدخلا القسم ، إبنها مستلقياً ويبدو نصف واعياً ، لم تنبس بكلمة واحدة ، تقطب حاجباها الرفيعان ، تتسع حدقة عيناها السوداويتين . هل ذهبت سنواتي الأخيرة سدى ؟ إستدانتي من صديقتي وبيعي لقطع من ذهبي ومن أقراط أمي ، وتفريطي في مؤخّرى لزوجي بعد إتفاقنا لتوفيره لإجراء عمليات هشام . كل شيء ذهب سدى لأجل جزء أمكن التخلص منه في ساعات أو ربما أقل ؟! . ذاك ما إستنطق به لسان حالها . يتدخل أحد الأطباء - والذي بقليل من التدقيق أدركت أنه الذي إحتدّ عليها هذا الصباح - ليكسر الصمت : " إحنا آسفين يا مدام . إضطرينا لبتر الساق بعد الحادثة مباشرة بدون إستئذان أي من الأهل . الحالة كانت خطيرة . إحنا آسفين " .