" مع السلامة يا ولاد " هكذا قالها محمد حمودة - او حمّودة كما اعتاد زملائه الاطلاق عليه - كما اعتاد ان يقولها دائماً بصوت أجشّ ونبرة ساخرة تهكميّة كرد فعل لندرة علاقاته بالفتيات في عصر أمست به الفتاة الحسناء تمثّل لدى الشاب إحدى اهم السلع الاستهلاكية المظهرية التي ما أن توفّرت حتى بدا في درجة وطبقة إجتماعية ارقى . بإمكان الشاب المصري ملاحظة هذا في نظرات وإيحاءات اقرانه ، تماماً كما يلحظ نظراتهم التي تنضح بإعجابهم حين يرونه جائلاً وقد إستبدت به الخيلاء وهو يعبث بأجهزة " اللاب توب " وال " الآي باد " وال " الإكس بوكس " .
إسمه محمد محمود حمودة ، طالب بالاكاديمية الحديثة بالمعادي قسم نظم المعلومات الادارية إنجليزي . سمرة بشرته ، وخصلات شعره الثقيلة الخشنة ذات اللون الاسود التي تبدو دوماً منتصبة في تأهّب وكأنها تحاول بذلك إخفاء تلك الخصل الشيباء التي تناثر بعضها فوق رأسه ، تطويحة يديه سريعاً عن يمينه وعن يساره اثناء سيره ، ليس هذا ما يمكن ان يجعله جديراً بإهتمام اقرانه و زملائه ، أثمة شيئاً من كل هذا خليقاً بأن يثير العجب ؟ ولكننا حين نتحدث عن شاباً يلتزم أشد الالتزام في ارتداء الملابس الشتوية حتى بعد مضى شهر ونصف الشهر على إفتراق أستار فصل الصيف ، وحين نتحدث عن شاباً يشطر ايام الاسبوع بين " البنطلون القماشي " و " البنطلون الجينز " ، فمن المؤكّد اننا نتحدث عن عادات مثيرة لشهقات العجب . بتعبيرات فكرية تعاظمت قدرة المصريين على التعاطي معها في اعقاب ثورة 25 يناير ، نحن نتحدث هنا عن شاباً يجدر بنا ان نصفه بال " نصف حداثي " وال " نصف راديكالي " ، فهو يواكب منتوجات الحداثة الاقتصادية بالنصف الاول من ايام الاسبوع ثم يعود ليثور على مصر " الإنفتاح الإقتصادي " بالنصف الثاني من ايام الاسبوع ! ومن هنا مأتى دهشة أقرانه .
لم يرث محمّد نفسية المقدام البطل عن والده ( الملاكم البطل ) ، كما انه ليس متآلفاً مع نفسيّة التابع المذعن ، إنه يتمنى لو انه كان ولكنه لم يكن . تتجلي تلك الرغبة من آن لآخر في كلمات ك " أنا الوحش " أو " أنا الكل في الكل هنا " . كلمات تندفع رغماً عنه كالرصاصات النحاسية في لهجة مؤكّدة ونبرة مجلجلة ، وتخرج منه في بعض الاحايين ساخرة هزليّة متحشرجة في وجه رفاقه . هكذا يثور على نفسه ، وهكذا ينقّب بدأب عن نفسية البطل فيما بين جوانحه ، تماماً كباحث البيولوجيا الذي ينفق عشرات السنون بين الشقوق بحثاً عن أدلة لإستكمال الحلقات المفقودة بالسجل الحفري لأحد أفراد المملكة الحيوانية ، يود أن يقول لأقرانه : " لست انا من ترونه امامكم ، إنني بطلاً ، تلك هي حقيقتي " . بيد ان صرخاته وكلماته تلك سواء كانت جذوتها مشتعلة ، او خافتة في حدّتها ، لم يكن يجد من رفاقه على إثرها سوى ضحكات لم تزيده الا احتراقاً ، وقهقهات لم تغمر نفسه الا كبَداً وضجراً . لم يكن الامر يعدو بالنسبة لهم كونه لعبة مرحة يهتاجون وتنبعج ملامح وجوههم مالئين الاجواء صخباً لها ، وكانت ايحاءات محمّد وايماءاته غير الجادة في بعض الاحيان اثناء تلفّظه بكلماته تلك تتيح لهم ذلك . غير ان ردود افعالهم تلك مفهومة على كل حال إذ ان كلماته لا تجد لديهم مبرراً معقولاً ، فهي على اقصى تقدير ليست الا لغواً وثرثرة ليست ذات معنى ، او انها محاولات منه لبثّ روح المرح كما هي العادة .
بين ماضّ مستغلق على الإستجلاب ، عصيّ على الإسترجاع ، وسيرة بطولة إنطبعت في وجدان محمّد وتركت في نفسه عظيم الاثر ، مستصرخاً ومستلهماً في ذاته الوريث الشرعي لها ، وواقع لا يرى فيه من الثراء والعطاء بقدر ما يرى من الإستلاب ، سقط محمّد فريسة بين مخالب ذاك الشعور .. الشعور بالتناقض الفجّ ! . الأمر الذي لا يدفع بالمرء إلا لإستمالة الواقع وإستعطافه ، وليفقد عندئذ فردانيته او ليفقد ما يفقد ! وإما فليتقبل إنسحاقه وسقوطه صريعاً على يد الإغتراب ، صاغراً ، بنفس ساكنة ليست من الجزع في شيء .
ربما أن ذاك الشعور الذي تلبّس محمّد هو الذي يدفعه دوماً لمسائلة أقرانه عن أدق تفاصيل حياة أسرهم وصغائرها ، عن مأكلهم ، وعن مشربهم ، وعن ملبسهم ، وعن ديكور منازلهم ، وعن اماكن تنزّهاتهم ، يتحسّس في وجل الخيوط الرفيعة التي تربطه بواقعه ومحيطه . واقعُ لا يقوى المرء على تجاوزه والإنفصال عنه ، مهما بدا ثقيلاً ، خانقاً لزفراته ، شاقّاً على نفسه إحتماله .
والدة محمد : آلو سلام عليكم .
كريم ( صديق محمّد ) : وعليكم السلام و رحمة الله ، إزى حضرتك يا تنط ؟
والدة محمّد : اهلاً إزيك يا كريم ؟
كريم : الحمدلله يا تنط ، أخبار عمو ايه النهاردة ؟ أحسن من الايام اللي فاتت ها ؟
والدة محمّد : الحمدلله يا كريم أحسن كتير من الايام اللي فاتت ومن الايام اللي كانت بعد العملية .
كريم : الحمدلله ، يارب دايما كدة . محمد موجود يا تنط ؟
والدة محمّد : لحظة واحدة يكون معاك .
كريم : اوكي يا تنط ، إتفضلي .
والدة محمّد تدلف للداخل ، وإذا بصرخة ملتاعة ، هلعة ، تسري في الأرجاء : " إلحقوني ، إلحقوا يا ولاد أبوكم " . كان بإمكان كريم ان يستمع إلى دبيب الأقدام المهرولة ، الأمر جليّ تماماً ، لقد لفظ والد محمّد أنفاسه الاخيرة بين اكفّ نجليه و رحل في هدوء .
لم يستغرق الامر اكثر من سويعات قليلة حتى تسنّى لأعمام محمّد حجز قاعة المناسبات بمسجد " الرحمة " ، المسجد الكائن بأحد الشوارع الجانبية القريبة من منزل اسرة محمّد بحي " باب اللوق " .
تقدّم صفوف المعزّين رئيس مجلس إدارة النادي الأهلي وابرز اعضاء مجلس الإدارة ، وبدا محمّدا في الحُلّة الكلاسيكية مرتدياً بدلة ذات لوناً بُنيّاً داكناً ، ومن اسفلها قميصاً ذو لوناً سمنيّاً ليس زاهياً ، له ياقه عريضة . بدت إمارات الإخشوشان والتماسك مرتسمة بين ثنايا محيّا محمّد ، غير انه كان يطبق شفتاه فوق بعضهما من آن لآخر بعينين محملقتين مشدوهتين ، وذهنية منصرفة الي شيء آخر . كما انه بدا لائقاً إجتماعياً لمواجهة مشهداً كذاك ، فقد كان يشدّ على أيدي المتقدّمين لتقديم واجب العزاء بقوة موجهاً إليهم كلمات العرفان وعبارات الإمتنان . بيد أن نشوة خفيّة تكاد تنطق بها ملامحه كانت تعتريه حالما كان يقترب منه أحدهم ويربت على يديه قائلاً : " شد حيلك يا أبوحميد ، والدك كان راجل مشرّف ، وكان دايما مخلص في شغله ، من ايام ما اشتغل مع فريق العلاج الطبيعي لفريق الكورة ، لحد ما بقى مدير مرسى النادي . البقاء لله " . نشوة خفيّة كانت تختلج بها نفسه ، إلى جانب شعوراً بالتأفف والخذلان كان يتسرّب إليه حثيثاً في ذات اللحظة !
قد يكون صحيحاً أن حاشية الملك هم أول من يسعدون بموته لأن وجود الملك لا يعني على كل حال إلّا نفي وجودهم الفردي الخالص . ولكن ماذا عن رابطة الدم ؟ هل كل ما نرثه عن آبائنا هو صفاتنا الموروثة بيولوجياً وممتلكاتهم الماديّة أم ان الامر يتعدّى ذلك ؟ وما مصدر هذا الشعور الذي يكاد يتملّكني ؟ تلك التساؤلات دارت بخاطر محمّد وهو يقف منتصباً على قدميه بغرفة والده ممسكاً بصورته وهو يضحك او ربما يبتسم متحشرجاً قبل أن يرتمي على الفراش ويدفن رأسه بين كفّيه ليجهش بالبكاء !