أأندب حظي أم حظها هي ؟ هي التي ما كنت أحلم ان تطالعني يوما بنظراتها الطاهرة و ترفعني اليها في عنان السماء
أنا الرجل الكذاب ،الحقير، الصعلوك ،الخائن اللعين ،قضيت نصف عمري بين تحميل متاع الناس في الميناء نهارا و في دور القمار و الحانات من حضن غانية لأخرى ليلا فان قارب ليلي و مالي على الانقضاء جاءت أمي العجوز في أعقابي تفتش عني من مكان لآخر فتقف علي حتى أنهرها حينا و استسلم لها في تأفف حينا أخر.
تلك كانت حياتي المقيتة قبل أن أراها...تعب و شقاء تذروه الرياح.
عبثا حاولت التخلص من ادماني ،عبثا حاولت أن أكون الولد الذي تتمناه أمي التي صبرت و سامحت و دعت الله في خلواتها لكني أضعف من مقاومة ضعفي و مغريات الحياة الرخيصة من حولي .
عرفتها ذات صباح جميل ...كانت على الرصيف تنتظر من يحمل عنها حقائبها فهرولت اليها واسترقت نظرة الى وجهها الذي اختفى بعضه خلف قبعتها و ما ان وصلت اليها حتى بادرتني بالتحية بصوت انساب الى قلبي في رقة بالغة و رفعت قبعتها فانسدل شعرها الاسود الناعم كالحرير على كتفيها فأظهر نور وجهها الوضاء كأن الشمس تغار منها و ما جرأت على تصفح ملامحها حتى دعتني لاصطحابها الى سيارتها المركونة خارج الميناء ففعلت و أنا مطأطىء الرأس ذليل النفس ثم دعتني لأسوق سيارتها عنها و جلست قربي دون امتعاض و لا ترفع و قد كنت خجلا كل الخجل من عبق الخمرة التي انتشرت في المكان و ما استطعت لاخفائها شيئا .
راحت تسألني عن أحوالي و حياتيأنما اشفقت علي و رق قلبها لي فمثلت لها دور البائس المسكين الذي ظلمته الدنيا و أشقته دروبها فذرفت دموعا ما رأيت أنقى و لا أصدق منها و قررت جعلي سائقها الخاص .
أوصلت الفتاة الى قصر أبيها المبجل و ككلب حراسة بقيت خارجا أنتظر أوامرها أو أن تلقي الي بفضلة طعام أو عظمة جافة أسند بها نفسي و أسد بها حاجاتي الليلية .
تتالت الخرجات بيننا و توثقت الصداقة و زادت الثقة و استخلصت قلب الفتاة لي وحدي فصار لا ينبض الا باسمي و جاء اليوم الذي صارحتني بحبها و رغبتها في الزواج مني و لكني ما كنت لأجرأ على التقدم اليها و طلب يدها من أبيها فلست سوى قذارة على الارض يعاف حتى دوسها و لعله ان علم بلقاءاتنا سيدسني في التراب دسا و لن يعلم بمثواي أحد.
أخبرتها بمخاوفي فابتسمت و أخذتني من يدي الى أبيها و أعلنت له عن حبنا ليبارك لنا به فابشر وجهه و نضح بالسعادة و احتضنني حتى كاد يقطع انفاسي و تعهد لي بكل ما يملكه أن يؤول الي ان انا أسعدت ابنته طول العمر .
لم أكن مع ما منحتني الدنيا من سعادة و حب و مال غير ما كنته في اعماقي : رجلا فارغا سكيرا خائنا ...لم استطع تخطي حاناتي و فتياتي دون التعريج عليهم و لم استطع التخلي عن ليالي المبصرة.
قبيل حفل الزفاف بأسبوع تطلب مني اجراء تحاليل دموية لأجل اتمام معاملات الزواج الرسمية وبعدها طلب الطبيب رؤيتي على وجه السرعة و هم باعادة تحليلي ثم ابلغني أنني مصاب بالايدز.
أالآن يا دنيا تديرين ظهرك لي ؟ أالآن و قد صرت بين يدي تعبثين بي و تديرين ظهرك لي ؟ ان لم تشفقي علي فلما لم ترحمي وهن أمي و رقة حبيبتي ؟ لم انتظرت كل هذا الوقت لتقذفي بي بعيدا في أحضان الموت ؟ كيف سأجرأ على اخبار حبيبتي و كلها شوق ، أني لم أعد اصلح لها لأني حقير فاجر كذاب أثيم ؟
جلست بقرب الميناء الذي كان يوما ما مصدر رزقي و بلائي، انظر الى صفحات الماء المترقرقة ،امعن في حركتها الدائبة بين غدو و رواح وأنا ابكي نفسي و حبيبتاي و لا ادري كيف انعيهما نفسي التي صارت كالجيفة ، ينبغي التخلص منها و التعجيل في ذلك .
تدرج الغروب و أنا لا أبرح مكاني و يخالجني شعور خافت مخيف بقرب أجلي فتدمع عيناي وأنا أتذكر كل ما جنيته في حق أمي و أتمنى لو تتاح لي فرصة واحدة ، صغيرة ،لأثبت لها أنني ابن بار، ثم تصفعني ذكرى حبيبتي التي أذنبت في حقها فاستفحلت خطاياي و رجوت لو أن لي القدرة على العودة بالزمن الى الوراء و تصحيح كل هذا ، لكنت جعلتها أسعد مخلوق على الأرض.
وددت لو أقبل الارض تحت قدميهما لكن الموت يرمقني بعينين كبيرتين ، يريد أن يلتهمني و لو كنت جيفة عفنة .
فكرت و تساءلت: فيما انتظار الموت و يمكنني بلوغه و استباقه ؟
ضحكت من نفسي و أنا أفكر بهزيمة الموت و قهره بالذهاب اليه على قدماي، بدل انتظاره فيأخذني رغما عني .لما لا ؟ سأكون بهذا خدمت حبيبتي و جنبتها آهات وعذابات لا قبل لها بها و ستنسى أمي و سترتاح من غلظتي و وقاحتي و سفوري ...ستنسيان كما ينسى الأحياء الأموات و ستبدأ حبيبتي حياة جديدة أكون أنا مانحها. أخذت بعض الاحجار الثقيلة و ربطتها على جسدي و قذفت بنفسي في البحر و آخر ذكرى كانت وجه حبيبتي باسمة الثغر تدعوني للنزول أكثر فأكثر فأكثر.